دير القديس أنبا مقار
برية شيهيت
تعاليم المسيح
الإنسان والخطية
رسالة سلام للنفس المتعبة
الأب
متى المسكين
في
الإنجيل
تعاليم المسيح:
الإنسان والخطية
رسالة سلام للنفس المتعبة
أ.
مستوى تعاليم المسيح:
قال
المسيح بصراحة ووضوح: «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» (يو 16:7)، وأضاف: «لست أفعل
شيئاً من نفسي بل أتكلم بهذا كما علَّمني أبي.» (يو 28:8)
إذاً، فهي تعاليم الله الآب، إلهية بكل معنى ومبنى،
والتعاليم الخارجة من عند الله تحمل حتماً وبالضرورة مستوى فكر الله ورؤياه. سامية
أقصى ما يكون السمو، مُتقَنة على قياس ما تهدف إليه إتقاناً لا يميل إلى المهادنة
ولا تنحطُّ إلى مستوى ما دون مشيئة الله. لا تقابل الإنسان في منتصف الطريق ولا
تتدرج به من الأقل إلى الأكمل أو تحاول أن تأخذ بيده حتى يشتد عوده، بل تبدأ
بالكمال، وتسير من كمال إلى كمال. لا ترثي لحال ضعفه ولا تبالي بالتراب الذي أُخذ
منه بل تسمو به إلى السماء من حيث أتت وإلى حيث تنتهي بالإنسان، غير عابئة بصرخات
ضعفه ولا شكوى انحطاط طبيعته. لا تشفق على تعثُّره ولا ترثي لسقوطه.
والنتيجة الأولى: أن من يسمعها ويفحص مستواها ويكون
جادًّا في سمعه، مخلصاً في فحصه لها على أساس أنه قد نوى في قلبه أن ينفِّذها؛
يرتد إلى نفسه فلا يجد أقل قوة لا على التنفيذ فقط، بل وحتى على المصالحة بين
انحطاط حاله وسمو مطالبها، أو بين عجز إمكانياته جميعاً وكمال غايتها. فمَنْ هو
الإنسان أمام قول المسيح: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،
وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم» (مت 44:5). وما هي قدرة الانفعال
النفسي والعصبي أمام قول المسيح: «مَنْ لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر
أيضاً» (مت 39:5)، أو قوله: «مَنْ سخَّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين» (مت
41:5). أو «مَنْ أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك (العباءة)، فاترك له الرداء أيضاً
(الجلباب)» (مت 40:5)، أو قوله: «مَنْ أراد أن يقترض منك فلا تردَّه.» (مت 42:5)
بل وماذا يكون وقع كلام المسيح على عواطف الإنسان الذي
يحترمها ويكاد يعبدها حينما يسمع قول المسيح: «إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض
أباه وأُمَّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي
تلميذاً» (لو 26:14). ولكن إن كان هذا الإنسان جاداً جداً في سماع التعليم،
ومخلصاً أشد الإخلاص في فحصها على أساس نية القلب في التنفيذ، فماذا يصنع؟ أقول
لك، أو على وجه الأصح يقول له المسيح، ماذا يصنع؟
يقع على الأرض منبطحاً حتى الحضيض الذي يناسب حاله
ويعفِّر جبينه بتراب الأرض الذي منه أُخذ، ويصرخ متوجعاً: حقيرٌ أنا يا رب، وتراب
ورماد هي جُبلتي، وهوذا أنا قد قِست نفسي على قياس تعاليمك ووصاياك فوجدت نفسي
دودة لا إنسان، تراب أنا ورماد وليس لي أن أتطلَّع مجرد التطلُّع أو أن أتقرَّب
إلى كمالك الذي لك في وصاياك، وهل للتراب أن يصنع لنفسه سلماً يصعد به إلى سمائك.
فيكون لسان حال المسيح والآب: ارتياح ما بعده ارتياح
على هذا الكلام وهذا السلوك وهذا الانهزام الذي بلغه الإنسان إزاء وصايا الله
وتعاليمه، إذ يكون قد نجح الله في سمو تعاليمه التي بلغت المطلق الأعلى في مستواها
بالنسبة للإنسان على الأرض إذ جعلته أول ما جعلته أن يدرك مستواه ويتَّضع أمامها
حتى التراب، ويقتنع أشد الاقتناع أنه ليس أهلاً بإمكانياته الترابية أن يقف على
مستوى الكمال الذي في الوصية، أو حتى يقترب منه، فالهوة سحيقة بين الإنسان على
الأرض وبين وصايا الله التي من السماء وفي السماء: «كما عَلَت السموات عن الأرض
هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم.» (إش 9:55)
ب. إلى مَنْ يعطي المسيح تعاليمه على هذا
المستوى المتعالي عن الإنسان:
واضح
من ملابسات حياة المسيح مع تلاميذه أنهم لم يكونوا هم أيضاً على مستوى تعليمه:
«فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا (التعليم). فقال لهم: أهذا يعثركم
(سوف تفهمون)، فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً.
(وسوف تعلمون عندما يحل) الروح هو الذي يُحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً، الكلام
الذي أُكلمكم به هو روح وحياة.» (يو 61:6-63)
واضح
من هذا السلوك الذي سلكه التلاميذ وتعليق المسيح ما يأتي:
أولاً:
إن تعاليم المسيح بحد ذاتها ليست على مستوى
أقرب الناس إليه، وأنها في شكلها الظاهري معثرة للإنسان العادي.
ثانياً: إن المسيح أجَّل فهم تعليمه حتى يصعد إلى السماء ويرسل
الروح القدس.
ثالثاً:
إن
الجسد لا يفيد شيئاً تجاه التعليم لأنه لا يستطيع، لأن التعليم روح وحياة فهو ليس
للجسد.
رابعاً: تعاليم المسيح
ليست مُرسَلة للإنسان الذي يعيش بجسده فقط أي الإنسان العتيق، بل مُرسلة إلى
الإنسان الذي يحوز الروح القدس، أي الإنسان الجديد القائم مع المسيح لأن التعليم
روح وحياة.
ج. تعاليم المسيح في ضوء الروح القدس:
واضح
لنا الآن أشد الوضوح لماذا لَمَّا يسمع الإنسان تعاليم يسوع المسيح ووصاياه لأول
وهلة، ينسحق ويقع منبطحاً إلى التراب صارخاً متوجعاً أنه ليس على مستوى هذه
الوصايا العالية علو السماء، وهو إنسان على الأرض كدودة في تراب، هذا لأنه فهم خطأ
أن هذه الوصايا والتعاليم تخص الجسد، وأنه أراد أن يتممها على مستوى هذا الجسد
والنفس العتيقة فيه، مع أنها
مُرسَلة فقط للإنسان الجديد في المسيح المتجدد بالروح القدس حيث بروح الله يفهم
ويعمل وصايا الله. فهو إن حاول أن يفهم أو يعمل وصايا المسيح حسب تعاليمه
بإمكانيات الجسد، فهو حتماً منهزم لأن المسيح قال: «أما الجسد فلا يفيد شيئاً»
(يو 63:6). وسوف نعرف حالاً كيف ولماذا لا يفيد شيئاً؟
د. إذاً، ما هو قصد المسيح من تعاليمه ووصاياه؟
واضح
أن الوصايا والتعاليم هي مُرسَلة للإنسان الجديد، فهي تعاليم روحية للحياة الأبدية
والإنسان الجديد حيٌّ بالروح القدس، والمسيح يريد أن يُهيئه للحياة الأبدية.
فما
هي إذاً قيمة الجسد، وما هو موقعه من الإنسان الجديد؟
الجسد
بكل حواسه وآلياته وحركاته هو مجرد الغلاف الخارجي أو الوعاء المؤقت الذي يعمل فيه
وبه الإنسان الجديد بالروح. فبعد أن يتمم الإنسان الجديد الروحي أعماله بحسب
تعاليم المسيح ومشيئة الآب ويتهيَّأ لملكوت الله، يُطرح الجسد على الأرض وينطلق
الإنسان بلا عائق ليستوطن السماء والمسيح. لأنه كما يقول بولس الرسول: «لا يرث
الفسادُ عدمَ الفساد.» (1كو 50:15)
أما لماذا قال المسيح إن الجسد لا يفيد شيئاً؟ فهذا
لأنه لا يقدِّم شيئاً على الإطلاق للإنسان الجديد، بل على النقيض هو يعوِّق حركة
نمو الإنسان الجديد بالروح ويشدُّه دائماً إلى الأرض برغباته وشهواته. لذلك أصبح
ثقلاً رذيلاً على الإنسان الجديد الذي يريد ويجاهد ليعيش حسب الروح محاولاً أن
يثنيه عن الحياة بالروح.
إذاً،
وما فائدة الجسد بعد؟
وضع
الجسد بالنسبة للإنسان الجديد هو موضع الشريك المخالف، فجريه المستمر نحو الرغبات
والشهوات يكشف ضمناً عن مدى نمو الإنسان الروحي ومدى صلابة إرادته إزاء رغبات
الجسد الذي لا يريد أبداً ما يريده الروح في الإنسان الجديد: «لأن الجسد يشتهي ضد
الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون»
(غل 17:5). هنا يلزم للقارئ أن ينتبه جداً أن الإنسان يفعل بالجسد ما لايريده
الروح وكأنه رغماً عن الروح. هذه صورة مخزية فيها يستظهر الجسـد بشهواته فيغلب
الإنسان الجديد وروحه. وهذه الحالة تصوِّر إنساناً عقد النية على قمع الجسد وضبط
شهواته: «وكل مَنْ يجاهد يضبط نفسـه في كل شيء... بل أُقمع جسدي واستعبده حتى بعد
ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً» (1كو 25:9و27). واضح هنا أن الجسد هو
المحك الذي يستثير إرادة الإنسان الروحي لكي تكون دائماً في حالة استنفار وكأنها
أمام عدو يريد أن يخطف إكليل الإنسان الروحي من فوق هامته.
ومن هنا يظهر لنا أن الإنسان الجديد الذي يعمل ويُقاد
بروح الله هو مصدر الإرادة والمشيئة الصالحة المستمدة من الروح والمقبولة والمرضية
أمام الله، والجسد هو الذي يشهد على مدى صلاحيتها وصلاحها بمقدار خضوعه وانكساره
وانهزامه أمامها.
هنا دور تعاليم المسيح ووصاياه، فهي المُهذِّب
والمربِّي
والمشجِّع، وباختصار هي المدرسة التي يتعلم فيها الإنسان الجديد ويربِّي ملكاته
وإمكانياته ويشحذ إرادته ضد الجسد وشهواته وميوله الخاطئة، ثم ربطه بالنعمة
وقيادته ضد رغباته حتى يكمل الإنسان الجديد وصايا الرب. فالوصية التي تقول: «أحبوا
أعداءكم»، حينما يسمعها الإنسان العتيق يتذمر ويحتد ويقاوم ويتمرد، ولسان حاله
“هذا أمر مستحيل ولن يكون”. فتنبري له إرادة الإنسان الجديد متسلِّحة بالوصية
الروحية وروح الله فيها يشدِّد الإرادة ويزكِّيها ليقنع الجسد، إن بالحُسنى وإن
بالضغط والإلزام، حتى يخضع الإنسان العتيق ويمد ذراعيه صاغراً لعدوه ويقبل مَنْ
يكرهه بل ويُقبِّله، وبعدها تسعد النفس بالله ويسعد معها الجسد صاغراً.
وهكذا في كل وصايا الرب، فقد أرسلها الله لحساب
الإنسان الجديد لترفعه فوق شهوات ورغبات الجسد والعالم ليغلب بها وينتصر، حتى بعد
أن يطرح الإنسان الجديد ثقله الجسدي - ذلك العدو
والشريك المخالف الذي لابد منه - ينطلق في
موكب المنتصرين مع المسيح.
ولكن
الجسد لا يكون دائماً على مستوى الانكسار والانهزام للروح. فهل يمكن بسبب عصيان
الجسد الترابي وتمرده أن يخسر الإنسان الجديد أمله ورجاءه والحياة الأبدية التي
إليها دُعي؟ حاشا لله، إذ يقول القديس بولس:
+ «فإني أعلم أنه ليس ساكنٌ فيَّ - أي في جسدي - شيءٌ صالح، لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما
أن أفعل الحُسنى
فلستُ أجد... فإني أُسَرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن (الإنسان
الجديد). ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يُحارِب ناموس ذهني (التي هي تعاليم
المسيح) ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي.» (رو 18:7و22و23)
هنا
مفتاح شرح هذه الآيات:
أولاً:
الإرادة الروحية الصالحة حاضرة عندي. وهي
إرادة الإنسان الجديد بحسب الروح وبمقتضى الوصايا.
ثانياً: ناموس ذهني:
«بذهني أخدم ناموس الله» (رو 25:7)، الذي هو الوصايا الإلهية بفم يسوع المسيح.
بمعنى
أنه طالما أن إرادة الإنسان الجديد قوية وحاضرة، ووعي الإنسان الجديد (الذهن)
ملتصق بتعاليم المسيح ووصاياه، فإن ميزان عدل الله ورحمته يقفان بل ويميلان
بشدة مع الإنسان في جهاده ضد الجسد وناموس الخطيـة العامل فيه، فلن تأتي عليه
دينونة ما: «إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع (إيماناً
وحبًّا) السالكين (بالإرادة والنية والاشتياق الشديد) ليس حسب الجسد بل حسب
الروح.» (رو 1:8)
ومعنى هذا واضح أشد الوضوح، أن الإنسان الذي قَبِلَ
الروح القدس في المعمودية واستقى الدم الإلهي واغتذى بالجسد المقدس والنعمة، وأصبح
بذلك إنساناً جديداً حائزاً على روح الحياة في المسيح، واقتبل الإنجيل وأصبحت
وصايا المسيح هي ناموس ذهنه - «أما نحن فلنا فكر المسيح
(أي تعاليمه)» (1كو 16:2) -
الذي يهذُّ فيها وقد انشغل بها وتسلَّحت إرادته بحب المسيح وصلاحه؛ فلن تقوى أخطاء
الجسد وخطاياه بل وناموس الخطية بكامله العامل في الأعضاء أن يُخرِجَ الإنسان من
تحت قبول عدل الله ورحمته، بمعنى أنه ليس عليه دينونة بعد ولن يكون. لماذا؟ لأنه
كما سبق وأثبتنا أن وصايا المسيح وتعاليمه هي للإنسان الجديد ليحيا ويفرح بها
ويسلِّح إرادته بها، وليست هي للإنسان العتيق والجسد.
فطالما الإنسان الجديد متمسك بالإنجيل أي وصايا يسوع
المسيح وتعاليمه، وقد صارت هي ناموس ذهنه ومسرة نفسه، وتسلَّحت إرادته باشتهاء عمل
الصلاح والسلوك في أعمال الروح ومحبة المسيح من قلب طاهر بشدة؛ فلن تُحسب عليه
ضعفات الجسد، ذلك بحسب عدل الله ورحمته، لأن الإنسان لن يرث الحياة الأبدية بأعمال
الجسد ولا بالجسد جملة، بل بالإنسان الجديد الذي تهذَّب بالإنجيل وفرحت إرادته
بأعمال الروح وتقدَّست نيته من الداخل بقداسة المسيح.
الخطية خرجت من حساب الدينونة إلى الأبد عند
المؤمنين باسمه:
وأساس
هذا كله أن الخطية بحد ذاتها قد انفك رباطها عن الإنسان نهائياً وإلى الأبد على
الصليب! إذ قد دُفِع ثمنها بالكامل. فنحن فينا خطية، نعم، ولكن ليست علينا خطية.
لنتقدم إلى الدينونة خطاة، ولكن مبرَّرون؛ محكوم علينا بالموت، ولكن تمزَّق الحُكم
وفقد صلاحية نفاذه، وأُلغي الموت وحصلنا على براءة في المسيح أبدية. فالذي يحمل
الدم لا يحمل خطية، والذي يؤمن
بالقيامة قد داس الموت، والذي أخذ الروح القدس قد غلب الجسد وكل أعماله. فإن كان
للخطية فعلٌ فينا، ففعْلُها ميت بحد ذاته، بل «الجسد (نفسه) ميت بسبب الخطية.» (رو
10:8)
إذاً، فالخطية نفسها ماتت واستهلكها المسيح في جسده
على الصليب، وهي غير موجودة أمام الله الديَّان بالنسبة للذين آمنوا بالمسيح
واشتركوا بإيمانهم في موته، وقيامته. وهكذا خرجت الخطية كعنصر للدينونة
وإفساد الضمير. من أجل هذا صرخ القديس بولس فَرِحاً متهللاً: «لا شيء من الدينونـة
الآن على الذين هم في المسـيح يسوع، السالكين (أي المنحازين) ليس حسب الجسد بل حسب
الروح» (رو 1:8). بمعنى أنهم بالإرادة والإيمان والرجاء والحب يعيشون للمسيح
بالرغم من مشاغبات الجسد وإلحاحات غرائزه الميتـة. لذلك حتى وإن عمل المؤمن خطية
تُغفر له بمجرد أن يعترف بها. هنا الاعتراف بالخطية لا يعطيها سلطاناً من جديد ثم
يلغيه، بل الاعتراف هو من أجل تطهير الضمير.
عمل الشيطان وتلويثه لضمير الإنسان:
وهل
يسكت الشيطان على هذه البراءة العظمى والتبرير الإلهي الذي منحه المسيح للإنسان
الذي آمن به من برِّه الخاص: «سيُجعل الكثيرون أبراراً» (رو 19:5)؛ بل وأعطاه شركة
في حياته، وفي حبه، وفي قيامته ونصرته العالية على الشيطان والخطية والموت؟
الواضح أمامنا الآن من تعاليم المسيح وبمقتضاها، ومن
رجعة
الشيطان المزيفة؛ نعلن بكل الأسف والحزن أن الشيطان قد نجح في تلويث ضمير المؤمنين
مرة أخرى. فكثير من المعلِّمين لا يزالون يؤمنون ويعلِّمون أن خطايا المؤمن لا
تزال لها قدرة أن تدينه وتميته، وأنه بسبب خطاياه لا يمكن أن يُقبل لدى الله أو
يرى نور الحياة الأبدية، وأنه واقع تحت الدينونة الأبدية، وأن انهزامه أمام خطايا
الجسد حتى والعاملة فيه بحسب ناموس الخطية قادرة أن تحرمه من ملكوت الله.
نقول إنه هكذا نجح الشيطان في أن يعيد للخطية سلطانها
المميت مرة أخرى، وأن يعيد حكم الموت على الإنسان، وكأن المسيح لم يُصلَب ولم
يُسفَك دمه ولم يمت ولم يقم من الموت ولم يعلِّم ولم يهبنا حياته الأبدية.
وهكذا نجح الشيطان بحسب التعليم غير المنتسب للفداء أن
يؤسس فينا ضمير الخطية مرة أخرى كأننا مستعبَدون لها، ويُوقفنا أمام الله
كمُدانين ونحن أبرياء، كمحكوم علينا بالموت ونحن أبرار في المسيح وأحياء فيه.
وقول
المسيح قاطع في أمر الخطايا كلها بلا استثناء: «الحقَّ أقول لكم: إن جميع
الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف التي يُجدِّفونها» (مر 28:3). ويقننها
القديس يوحنا في رسالته الأولى هكذا:
+
«إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضلُّ أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو
أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم.» (1يو 8:1و9)
+
«إن أخطأ أحد فلنا شفيعٌ عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفَّارة لخطايانا، ليس
لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً.» (1يو 1:2و2)
+
«ودم يسوع المسيح ابنه يطهِّرنا من كل خطية.» (1يو 7:1)
تذكَّر، أيها القارئ العزيز، أن احتمال المسيح الآلام
والتعذيب على الصليب وقبول الموت من أجلنا، كان لغاية واحدة وحيدة، وهي أن يفرِّح
قلب الإنسان الذي سحقته الخطية وأرعبه الموت كل أيام حياته. فلو حدث أن ظلَّت
الخطية في أية صورة من صورهـا مصدر حزن وكآبة لقلب الإنسان فهذا حتماً سيكون ضد
الإيمان بموت المسيح على الصليب واكتساب الخلاص لحسابنا.
فإن كان الرسول قد قال: «افرحوا في الرب كلَّ حين،
وأقول أيضاً افرحوا» (في 4:4)، وهكذا إن لم تفرحوا بالرب كل حين فأنتم تُحزِنون
قلب الذي تحمَّل الصليب بآلامه لكي تفرحوا أنتم. فلسان حالنا هو: أنا خاطئ، ولكن
من أجل خاطر المصلوب أنا فرحان. فخطيتي ستزول مع الجسد، أما فرحي فسيُفرِّح قلب
المسيح، ويدوم فرحنا إلى الأبد.
إبطال جسد الخطية وإلغاء قدرته على الدينونة
والموت:
بولس الرسول يقول بكل ثقة وإيمان وإعلان:
+ «لأنه إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير
أيضاً بقيامته، عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه، ليُبْطَلَ جسد
الخطية (أي كما قال المسيح: “أما الجسد فلا يفيد
شيئاً” - يو 63:6) كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية (أي
أننا خرجنا من تحت سلطان الخطية بالفكر والعمل)، لأن الذي مات قد تبرَّأ من
الخطية (فعلاً وفكراً). فإن كنَّا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً
معه.» (رو 5:6-8)
وإن
كان بحسب التعليم غير المنتسب للفداء الذي يقول إن أي عمل للخطية بالجسد قادر أن
يحرم الإنسان من الخلاص، يقول بولس الرسول حسب المسيح بوضوح:
+
«لأنك إن اعترفتَ بفمِكَ بالرب يسوع وآمنتَ بقلبِكَ أن الله أقامه من الأموات،
خَلَصْتَ. لأن القلب يُؤمَنُ به للبر، والفم يُعتَرَفُ به للخلاص. لأن الكتاب
يقول: كلُّ مَنْ يؤمن به لا يُخْزَى.» (رو 9:10-11)
لماذا؟
لأن المسيح هو خلاصنا.
نخرج من هذا أن تعاليم المسيح ووصاياه سلَّحت الإنسان
الجديد ضد الجسد العتيق والعالم، وأبطلت عمله وسلطانه بوعي روحي فائق وإرادة حيَّة
قوية مسنودة بالرجاء والنعمة ضد أي خضوع لسلطان الخطية ورعبة الموت، لا في الضمير
ولا في الفكر. فقد دُسْنا الخطية والموت مع المسيح ولن تعود ترعبنا، فنحن مخلَّصون
ومفديُّون ومُصالَحون مع الله في المسيح. فلا موتَ ولا حياةَ (أرضية) تقدر أن
تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع. فنحن خطاة مُبرَّرون!!
- ولكن هل معنى هذا أن نستهين بالخطية ونمشي وراء
الجسد؟
تعاليم المسيح العملية من جهة النسك:
لم
يعطِ المسيح تعاليم نسكية مفصَّلة أو محددة، ولكنه مارس العمل النسكي بصورة
نموذجية لكي يرتفع بالنسك إلى مستوى صميم الحياة الجديدة للإنسان الجديد:
السجود:
فالسجود مارسه وكانت قطرات العرق تتصبَّب من جبينه
كقطرات دم، وهو الذي كشف عن نوع السجود للإنسان الروحاني الجديد قائلاً:
+ «الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي
(يتحتم = must) أن
يسجدوا... لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له.» (يو 24:4و23)
الصــوم:
والصوم
مارسه المسيح على أقصى مستوى، أربعين يوماً لم يأكل. ولكن الذي يهمنا جداً في هذا
الصوم أنه جاء بعد أن اعتمد وحلَّ عليه الروح من السماء، والآب ناداه: «أنت ابني
الحبيب بك سُررْتُ» (لو 22:3). فكان صوم المسيح بعد مسحته بالروح على الأردن
ونتيجة لاعتراف الآب ببنوته، وليس وسيلة لنوال رضى الله.
فالنسك والصوم بهذا الاعتبار يكونان ثمرة من ثمرات
الروح وتحقيقاً لحالة استعلان بُنوَّته لله. أي بصريح العبارة، لم يكن صوم المسيح
لضبط الجسد، بل لاستعلان انضباطه. وهكذا ينبغي أن يكون شأنه لدى الروحانيين. وبهذا
المعنى يكون الصوم على
مستوى ذبيحة حب مُقدَّمة لله واعتراف بفضله، فيأتي الانضباط للجسد كهبة وفضيلة
مُهداة من الله لترفع عن الإنسان خطية الاعتداد بالذات والبر الذاتي والاعتماد على
الجسد.
السـهر في الصـلاة:
وقد اهتم الإنجيل جداً أن يعطينا صورة حيَّة لممارسة
المسيح السهر طول الليل وهو في الجبال وحده:
+ «وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلِّي، وقضى الليل
كله في الصلاة لله.» (لو 13:6)
+
«وفي الصبح باكراً جداً، قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك.» (مر 35:1)
+
«وبعدما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفرداً ليصلي.» (مت 23:14)
+
«ثم تقدَّم قليلاً وخرَّ على وجهه وكان يصلي.» (مت 39:26)
والمسيح
لم يكن بحاجة إلى أن يمضي إلى الجبال وحده ويبيت هناك ويمضي الليل كله في الصلاة،
ولكنه اهتم واعتنى جداً أن يغرس حب السهر والقدرة على الصلاة طول الليل في لحم
الإنسان الجديد ودمه. وهكذا استلمنا بروح القيامة الإنسان الجديد القادر أن يُحاكي
نموذجه الأول والأعظم.
وأضاف
المسيح إلى خبرته هذه التي قدَّمها لنا، وصيته أيضاً على نفس المستوى:
+
«اسهروا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربة.» (مت 41:26)
+
«اسهروا وصلُّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت.» (مر
33:13)
+
«وما أقوله لكم أقوله للجميع: اسهروا.» (مر 37:13)
+ «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ.» (لو 1:18)
- حتمية الباب الضيق -
الباب الضيق:
أن
يؤمن الإنسان بما قاله المسيح وما عمل، سهل؛ فما أسهل أن يؤمن الإنسان بالمسيح في
قلبه ويعترف به بفمه. ولكن اختبار صدق الإيمان هو العمل به والسلوك بمقتضاه. إذ
بعد الإيمان يوجد “الباب الضيق”، و“الطريق الكرب”، الذي يتحتم على كل مَنْ آمن
بالمسيح أن يعبر منه. فالباب الضيق هو نقطة العبور الحرجة من الطريق الواسع المؤدي
إلى الهلاك إلى الطريق الكرب المؤدي إلى الحياة، حيث يُفحَص القلب والضمير على ضوء
الصليب.
وأشد أعداء الإنسان المؤمن
المخفيين في داخله هم: البغضة، والعــداوة، والخصام، والغضب، والدينونــة، ومحاكمة
أعمال الآخرين دون محاكمة الذات، وثلب أعراض الناس، ومحاولة إخراج القذى من عيون
الآخرين والخشبة مدقوقة في نِنْي عين الإنسان. هؤلاء هم الأعداء الجوانيين للإنسان
المؤمن المتربصين به على عتبة الباب الضيق يمنعونه من العبور منعاً. والإنسان
للأسف إمَّا هو لاهٍ عنها مستهترٌ بها، أو أنها دخلت خلسة تحت جلده وصارت جزءاً من
طبيعته، أو أنه يمارسها بفجور وكأن لا إنجيل له ولا ديَّان ولا يوجد أمامه الباب
الضيق. هذا الإنسان لا يعـود ينفعه إيمانه، لأن
الذي يصنع هذا يكون قد داس المحبة وافترى عليها وأهانها، والمحبة هي الله، وهي
شهادة صدق الإيمان وفاعليته.
وستبقى
تعاليم المسيح أعلى دائماً من مستوى أقصى جهد للإنسان!!
ليبقى الإنسان دائماً منسحقاً أمام الله والمسيح، متشبثاً
بالنعمة.
(20 سبتمبر 1994)
تذكار ميلاد القديسة العذراء مريم والدة الإله - حسب دلال دير
القديس أنبا مقار.