دير القديس أنبا مقار
برية شيهيت
الحكم الألفي
ا لأب
متى المسكين
كتاب:
الحكم الألفي.
المؤلف:
الأب متى المسكين.
الطبعة
الأولى: 1997.
(مقالات
سبق نشرها في مجلة مرقس أعداد: سبتمبر وديسمبر 1967، ويناير 1968).
مطبعة
دير القديس أنبا مقار - وادي النطرون.
ص. ب 2780 - القاهرة.
- 1 -
لقد
ورثت المسيحية الأولى روائع من التراث العبري الروحي، فلاهوت العهد القديم لاهوت
توحيدي حي خصب، والناموس الأدبي والأخلاقي زاخر بوصايا وتوجيهات غاية في الرُّقي،
قادرة فعلاً أن تكون منطلقاً صادقاً لتعاليم المسيح السامية.
ولكن للأسف فقد ورثت المسيحية أيضاً مع هذا التراث
السوي تراثاً آخر من تعاليم هي من وضع المجتهدين، خالية من الأصالة الروحية
الكافية. وهذه ضمتها كتب الأبوكريفا العبرية المزيفة التي جمعها وألَّفها أشخاص كانوا
حقاً ضالعين في المعرفة، ولكن لم يكونوا «مسوقين من الروح القدس» (2بط 21:1)؛ مثل
كتب: رؤيا عزرا الثاني وأخنوخ، ورؤيا باروخ وموسى وغيرها() من الأسفار المزيَّفة التي لم يؤمن بها بعض
اليهود المدقِّقين.
ومن التعاليم التي تضمنتها هذه الأسفار والتي شاعت عند
اليهود في عصورهم السابقة للمسيح مباشرة: المناداة بالملكوت الزمني لإسرائيل؛
و“المدينة المحبوبة” التي يُصوِّر فيها الكاتب حياة خيالية مادية يكون فيها كل
المتع الأرضية، حيث تكون إسرائيل هي عروس الدنيا التي تأكل وتشرب خيرات الأمم، أما
أعداء “يهوه” فيلحسون من تحت قدميها.
وواضح أن الضغط السياسي وحالة العبودية التي كان يئن
منها اليهود في القرون الأخيرة قبل مجيء المسيح كانت هي العامل الأساسي لانطلاق
المخيلات والأحلام والرؤى لتصوير ملكوت المشتهيات النفسية، وتفسير نبوات الأنبياء
بما يتناسب ومطالبهم الوقتية. كما يشترك في الأسباب المباشرة لهذا الجنوح الديني
صعوبة المنهج الأخلاقي ومشقة الناموس الأدبي بصفته الطريق الرسمي الوحيد لبلوغ
حالة السعادة والسلام والحياة المستقرة مع الله، مما اضطر الكاتب والمفكر والحالم
أن يقترح طريقاً آخر سهلاً ألقاه بعيداً عن دائرة العمل والجهد والإرادة
والمسئولية: هناك، هناك، في المستقبل البعيد سننال كل ما نشتهيه!
وقد لاقى هذا الأمل اللذيذ البليد صدىً جميلاً لدى بعض
المسيحيين الأوائل، فقد ترجموه ونقلوه بلغتهم المسيحية إلى معسكرهم العقائدي كما
هو، وإنما وضعوا الشعب المسيحي بدل شعب إسرائيل، وجعلوا أعداء المسيح عوض أعداء
يهوه، واحتفظوا بأورشليم “المدينة المحبوبة” لهم بدلاً من أن تكون لليهود.
والشيء المدهش حقاً أنه حتى بعض الآباء المشهورين قبلوا هذه التعاليم
المادية بدون فحص، بل وبعضهم مثل “بابياس” أسقف هيرابوليس بآسيا الصغرى، زاد من
وزنها المادي بصورة تكشف عن خطورة المجاراة للتقاليد اليهودية، فيقول “بابياس” (60-130م):
[ ستأتي أيام فيها تنمو كروم
العنب، كل كرم يحمل عشرة آلاف فرع، وكل فرع يحمل عشرة آلاف غصن، وكل غصن يحوي عشرة
آلاف عنقود، وكل عنقود يحمل عشرة آلاف حبة عنب،
وكل حبة حينما تُعصر تملأ خمسة وعشرين مكيالاً من الخمر.]()
وطبعاً مثل هذا التهويل في التخريج الذي توصَّل إليه
بابياس لم يكن إلاَّ صدى للتعاليم اليهودية المزيفة التي استلمتها الكنيسة الأولى
من كتب الأبوكريفا.
ولكن الخطورة التي نشأت من بساطة بابياس في تقبُّل مثل هذه التعاليم
المزيفة بهذه السهولة أوقعت الكثيرين من بعده في نفس المحظور، لأن بابياس كان أول
حجة وأول مرجع رجع إليه الآباء الذين أتوا من بعده في هذه المشكلة وأخذوا عنه هذا
التعليم بشيء من التحفُّظ. كما يقرر المؤرخ الأسقف يوسابيوس القيصري أبو التاريخ
الكنسي الذي عاب على بابياس بساطته وقصوره الفكري في (الكتاب الثالث، فصل 39)،
بقوله:
[ ويبدو أنه كان محدود
الإدراك جداً كما يتبين من أبحاثه، ومن ضمن أقواله أنه ستكون فترة ألف سنة بعد
قيامة الأموات، وأن ملكوت المسيح سوف يؤسَّس على نفس هذه الأرض بكيفية مادية. وأظن
أن بابياس وصل إلى هذه الآراء بسبب قصور فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرِكٍ أن
أقوالهم كانت مجازية (روحية). وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من آباء الكنيسة
من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين في ذلك على أقدمية الزمن الذي عاش فيه، مثل
إيرينيئوس وغيره مِمَّن نادوا بمثل أرائه].
وفي الفقرة 11 و12 من نفس الفصل يقرر يوسابيوس أن آراء
بابياس محض “خرافة”.
وللأسف أن يوستين الشهيد تقبَّل عن بابياس هذا الاتجاه، ولكنه عدَّله
قليلاً ليتناسب مع روحانيته، فقال:
[ إن الرب يسوع سيعود إلى
أورشليم ويعيش مع تلاميذه “يأكل ويشرب” معهم، وأن المسيحيين سيجتمعون هناك ويعيشون
مع المسيح والأنبياء والبطاركة في سعادة كاملة ألف سنة.]()
ويُلاحظ أن يوستينوس كان يتحاور هنا مع أحد فلاسفة
اليهود المدعو تريفو، وقد أورد له هذا التعليم الموافق للأفكار اليهودية الشائعة
عندهم.
ولكن يعود الشهيد يوستينوس نفسه ويقرر أن هذا التعليم
لا يُعتبر جزءًا جوهرياً من الإيمان المسيحي، ويعترف “أن كثيرين من المسيحيين
المعتبرين لا يأخذون بهذا التعليم ولا يُقرُّونه”.
ويحاول يوستين أن يستشهد بإشعياء 17:65-25، وبسفر
الرؤيا 4:20-6،
وميخا 1:4-7؛
وذلك لشدة انطباقها على نفس هذه التعاليم لو أُخذت كما هي بأوصافها المادية. وهذا
ما سوف نعود إلى تفنيده في فصل آخر.
ويأتي إيرينيئوس ويُنادي بنفس التعليم مستشهداً بأقوال
بابياس وبنفس تصوُّراته، وكذلك جاء من بعده ميليتو وهيبوليتوس وترتليان، مستندين
جميعاً كل واحد على مَنْ قبله، مع أن الأساس كله هو كتب الأبوكريفا اليهودية
المضلِّلة.
وأول مَنْ انتبه إلى هذه التعاليم ومنافاتها لروحانية الإيمان المسيحي
وحقيقة الملكوت الإلهي والحياة الأبدية هم علماء مدرسة الإسكندرية.
وقد انبرى أوريجانوس لهذه التعاليم وأسكتها بحجج لا تُناقش. وجاء أيضاً بعده
العلاَّمة ديونيسيوس البابا الإسكندري (248-265م) وأحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية، فأسكتها نهائياً
في كتاب خاص أصدره بمناسبة ذيوع هذه التعاليم على أيدي الأسقف نيبوس بصورة مزعجة
ومقلقة للإيمان تسبَّبت في ارتداد كنائس كثيرة، وخاصة بين مسيحيي الفيوم بزعامة
نيبوس أسقفهم الذي كان ينادي بضرورة الأخذ بسفر الرؤيا حرفياً، وكتب كتاباً بلبل
كثيرين؛ مما اضطر البابا ديونيسيوس للذهاب إلى الفيوم ودعوة كافة القسوس ومعلِّمي
الإخوة في القرى، وإقامة دراسات هادئة في الأسفار مع الشعب:
[ وجلست معهم من الصباح إلى
المساء ثلاثة أيام متوالية، جاهدت لتصحيح ما كُتب في كتاب نيبوس (الأسقف المتوفي)،
واغتبطت بمثابرة وإخلاص الإخوة ودماثة خلقهم إذ كنَّا نبحث... أخيراً، اعترف منشئ
وباعث هذا التعليم - ويُدعى كوراسيون - على مسمع من
كل الإخوة الحاضرين وشهد لنا بأنه لن يتمسك بعد بهذا الرأي أو يناقشه أو يذكره أو
يعلِّم به، إذ اقتنع اقتناعاً كافياً بفساده، وأبدى بعض الإخوة الآخرين سرورهم
بالمؤتمر وبروح الصفاء والوفاق التي أظهرها الجميع.]()
وبعد عودة البابا ديونيسيوس إلى الإسكندرية، بدأ
بكتابة كتابين باسم: “على المواعيد الإلهية”، لكي يُلغي كل أثر لمثل هذه التعاليم
الخرافية عن الملكوت الألفي. وفعلاً نجح البابا ديونيسيوس مع يقظة مدرسة
الإسكندرية في انتشال الفكر المسيحي في مصر من هذه الهوَّة التي كادت تُفقد
المسيحيين بساطة الإيمان الروحي ونقاء التعلُّق بالحياة الأبدية في ملكوت إلهي
يتناسب مع الإيمان بالصليب والحياة حسب الروح!
وقبل أن ينتهي القرن الرابع كانت هذه التعاليم في
طريقها إلى الزوال من كافة الكنائس في مصر.
وبظهور القديس أغسطينوس (354-430م) دخلت هذه التعاليم مرحلتها الأخيرة في العالم
خارج مصر، إذ تزعَّم القديس أغسطينوس بعمقه حركة تفنيدها بقوة حجة لا تُقاوَم، مما
أوقف المنادين بها والمؤيِّدين لها موقف الخوف والخطر؛ إذ اعتبرها بسلطانه الكنسي
والروحي هرطقة علانية، حاسباً أن كل مَنْ يُنادي بالملكوت الألفي يحاول - دون أن
يدري - أن يلغي حقيقة الملكوت الحاضر الذي أسَّسه
المسيح فعلاً على الأرض وفي قلوبنا في نفس الوقت، معتبراً أن الكنيسة في الحاضر هي
ملكوت المسيح على الأرض وهي أورشليم المنظورة، وقد أعدَّت مائدتها فعلاً وهيَّأت
خمرها وكل مشتهيات النفوس الطاهرة، وأن المسيح يحكم الآن مع قديسيه، وأننا نجوز
الآن قيامتنا الأولى غير المنظورة، وأن الموت الثاني (الجسدي) لن يكون له سلطان
علينا لأننا غلبنا الموت الأول (الخطيئة)().
وبهذا يكون القديس أغسطينوس قد انتشل الإيمان المسيحي
من لوثة الأبوكريفا اليهودية المزيَّفة، ومن محاولة إسقاط السمو الروحي المسيحي
إلى الأرض، وخلطه بآمال جسدية هي الصفة الأولى والملازمة للعبادة اليهودية
المنحرفة.
والآن ونحن في القرن العشرين، نجد أن مثل هذه الخرافة
تحاول أن تأخذ طريقها للوجود مرة أخرى في الحوادث الجارية الآن، وهي تهزّ العالم
كله وصداها يملأ كل الأقطار.
***
- 2 -
يسهل
على القارئ الآن الربط بين ملكوت المسيَّا الذي كان يترقَّبه اليهود الذين أرادوا
أن يُخضعوا الروحيات للزمنيات، وبين فكرة الحكم الألفي التي سَرَت في الكنيسة
الأولى بتأثير الأبوكريفا اليهودية.
وللأسف، فقد عَبَرت هذه البدعة اليهودية متسللة
للأزمنة، وظهرت مرة أخرى من خلال الشِّيَع المسيحية التي قامت بعد القرن السادس
عشر في ألمانيا. والمعروف أنه لا زالت هذه البدعة مستوطنة حتى الآن في المدارس
اللاهوتية الألمانية().
ولا عجب أن اختارت فكرة الحكم الألفي البيئة الألمانية
لنموها وتوطُّنها، لأنها في حقيقتها نتاج النشاط العقلي ومحاولة لإخضاع الروحيات
للزمنيات استرضاءً للعقل، وهذه صفة من الصفات البارزة للعقلية الألمانية.
ونحن لو تركنا جانباً تأثير الفكر اليهودي المباشر في المسيحية الأولى، ثم
تغلغل الأبوكريفا اليهودية في المسيحية المتقدمة، وبدأنا نفحص الأصول
الكتابية التي ساعدت العقل البشرى لصياغة هذه البدعة، لوجدنا أن هذه الأصول
الكتابية تعتمد على مصدرين:
الأول: تصوير النبوات في
العهد القديم لمُلك المسيَّا القادم تصويراً مادياً نوعاً ما.
والثاني: ورود هذه الفكرة في سفر الرؤيا بتعبير محدود.
والآن علينا أن نفحص كلا المصدرَيْن الكتابيَّيْن حتى
نتبيَّن مقدار الانحراف الفكري الذي تسبب في قيام هذه البدعة وذيوعها بهذه الصورة.
المصدر
الأول:
لقد وردت بعض النبوات في العهد القديم وهي تصف ملكوت
المسيَّا بتعابير وتصاوير تبدو لأول وهلة أنها خرافية. وفي الواقع لو فحصنا
إمكانيات أي نبي في العهد القديم للتعبير عن الروحيات، كما عرفناها نحن في المسيح
الآن؛ لوجدنا استحالة مطلقة لإمكانية التعبير بالفكر القديم واللغة القديمة
والثقافة القديمة، بل وبالروح القديمة، عن روحيات العهد الجديد. هذا بالإضافة إلى
انحطاط مستوى التفكير الشعبي العام الذي كان يخاطبه النبي دائماً ويحاول أن يبثه
رؤياه عن الملكوت الآتي.
لذلك نجد النبوة في العهد القديم، تجنُّباً للتحديدات،
تتخذ طريقاً آمناً سهلاً لوصف الروحيات القادمة للملكوت الآتي لا بتعبيرات لاهوتية
صعبة، وإنما بأوصاف مجازية مادية شعبية سهلة تحمل في أعماقها أقصى ما يمكن من
التعبيرات اللاهوتية السريَّة التي تطابق الواقع في كل زمان، هذا لو فُحصت روحياً
وفُهمت بأعمق من شكلها القصصي الظاهري وبعيداً عن التأويلات المادية.
وتمثيلاً لهذه الأوصاف المادية نقدِّم بعض ما قاله إشعياء النبي يصف به
طبيعة الملكوت الآتي:
+ «ويخرج قضيب من جِذْع يسَّى وينبت غصن من أُصوله،
ويحلُّ عليه روح الرب...
1. فيسكن الذئب
مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشِّبل والمُسمَّن معاً،
2. وصبي صغير
يسوقها!...
3. ويلعب
الرضيع على سَرَب الصِّل (الكوبرا السامة)، ويمد الفطيم يده على جحر الأُفعوان!...
4. فتستقون
مياها بفرح من ينابيع الخلاص...
(إش 1:11و2و6و8؛ 3:12)
5. لأني هأ نذا
خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذْكَر الأولى ولا تخطر على بال...
6. لا يكون بعد
هناك طفل (يحيا قليل) أيام ولا شيخ لم يُكْمِلْ أيامه، لأن الصبي يموت ابن مئة
سنة،
7. والخاطئ
يُلْعَن ابن مئة سنة.»
(إش 17:65و20)
عند سماع هذه الكلمات اللذيذة برنينها الحلو على
الأُذن البشرية المجهدة من جذب هذا العالم وآلامه وأمراضه وشروره، يبتهج لها القلب
لا محالة ويتصورها في عالم الخيال البعيد، البعيد جداً عن الواقع! وإذ يستحيل
قيام هذه الأوصاف مادياً من خلال الطبائع الحيوانية المتصارعة في العالم الآن ولا
في ظل دورة هذا الزمان المتعجِّل المجحف؛ إذن، فهذه
الأوصاف تنبئ عن تغيُّر شامل في الطبائع المخلوقة عامة وفي طبيعة الزمان، بل وفي
طبيعة السماء نفسها والأرض أيضاً.
هكذا فسَّرت العقلية اليهودية المجهدة هذه النبوات
مادياً وزمانياً تحت ظروف الضغط والسبي والحرمان. وهكذا تسلَّمت العقلية المسيحية
الأولى هذه الطوطمة اليهودية السامة وخبَّأتها في طيات قلبها لتعود إليها وتتسلَّى
بها عندما يضغط عليها الزمان الحاضر بطبائعه الشريرة، فتجد فيها عزاءً مادياً عن
شؤم الحاضر وتفريجاً عن توتر النفس الشديد عندما تتعارض الروح مع آمال الجسد في
الراحة على الأرض!
ولكن ما هي حقيقة نبوَّة إشعياء إذن؟ وما هو سرُّها بلغة
الروح أو بفكر المسيح؟
في بساطة ما بعدها بساطة يشرحها المسيح هكذا:
1. «ها أنا أُرسلكم مثل حُمْلان بين ذئاب!» (لو 3:10)
(باعتبار أن المسيحي بوداعته
واتضاعه واستعداده للتضحية والموت من أجل الملكوت المعدّ ينتزع وحشية وشراسة
الأشرار).
2. «كونوا حكماء كالحيات وبسطاء
كالحمام (الأطفال).» (مت 16:10)
(هنا الحكمة والبساطة وهما
متعارضتان بطبيعتهما، كما وصفهما المسيح في قوله عن الحيَّة والحمامة، صارا يسكنان
معاً في قلب الإنسان المسيحي الواحد).
3. «أحمدك أيها الآب... لأنك
أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال!» (مت 25:11)
(باعتبار أن بساطة المسيحيين
أبطلتْ وهزأتْ من حكمة العالم).
4. «مَنْ يشرب من الماء الذي
أُعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد.» (يو 14:4)
(باعتبار أن الروح القدس صار
مصدر ارتواء وفرح أبدي).
5. «إن كان أحد لا يُولَد من فوق
(السماء الجديدة) لا يقدر أن يرى ملكوت الله.» (يو 3:3)
(باعتبار أن الروح يمثِّل
السماء الجديدة، وماء المعمودية المقدسة يمثِّل الأرض الجديدة).
6. «كل مَنْ كان حيًّا وآمن بي
فلن يموت إلى الأبد!» (يو 26:11)
(الحياة الأبدية التي
يتقبَّلها الأطفال في المعمودية والتي يمثِّلها النبي بمائة سنة).
والآن، إذ نرجو القارئ أن يعمل مقارنة بين نبوَّة
إشعياء وتعليم المسيح عن ملكوته حسب الأرقام المتبادلة التي وضعناها أمام كل من
النبوَّة وأقوال المسيح؛ نلاحِظ أن لغز النبوَّة انكشف تماماً، إنما بعمق روحي
بديع يفوق العقل والتقدير البشري!
إذن، فنحن الآن وفي هذا الزمان الحاضر، نعيش نبوَّة
إشعياء ونعيش ملء ملكوت المسيَّا الذي كان يترقَّبه اليهود، وضلُّوا عنه عند
مجيئه.
إذن، فقد انهدمت أُسس الأبوكريفا اليهودية في ترقُّب
تغيير مادي في شكل العالم وفي طبائع المخلوقات وفي طبيعة الزمان، إعداداً لقيام
ملكوت المسيَّا على الأرض، لأن ملكوت المسيح قد صار في العالم سرًّا من وراء
المادة والزمان والطبائع المخلوقة؛ إذ حصل فجأة داخل قلب الإنسان وبدأ بقوة يعمل
من الداخل لتغيير كل شيء في قلب الإنسان وفكره، وليس في هيئة العالم الخارجي:
«هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 17:5)!! حيث “الجِدَّة” في المسيحية تتعلَّق
بالروح وليس بالمادة والمظاهر.
إذن، فقد ضاع أيضاً الأساس الوهمي الذي يعيش
عليه بعض المسيحيين الملوَّثين بالأبوكريفا اليهودية في انتظار الحكم الألفي
متطلِّعين إلى تحقيق هذه النبوات مادياً، ظانين أن الأسد سيأكل فعلاً التبن مع
البقرة!! والشرور تتلاشى، والطفل يموت ابن مائة سنة والبالغ ابن ألف!!
ولكي نعطي صورة لامتداد هذه العتمة الرؤيوية التي أحاطت بالفكر اليهودي
وتسحَّبت على بعض المسيحيين الأوائل، نعرض مرة
أخرى لتصوُّر هذا الملكوت في ذهنية الفيلسوف لاكتانتيوس الذي عاش في أواخر القرن
الثالث والمسمَّى بشيشرون المسيحية معلِّم أولاد الإمبراطور قسطنطين الكبير:
[وابن العلي الله القدير سوف
يأتي... وحينئذ ستضيء الشمس سبعة أضعاف قدر ما هي الآن، وتطلق الأرض خيراتها
فتُخرج أثمارها من تلقاء ذاتها بوفرة، والجبال الصخرية تقطر عسلاً، وتتفجَّر منها
ينابيع الخمر إلى الوديان، والأنهار تفيض لبناً، والعالم كله يتهلَّل بالمسرَّة
والطبيعة تعتز وتبتهج.]()
وهكذا بهذه التطلُّعات الخرافية إلى المستقبل الكاذب
الذي لن يكون، ضاع ويضيع على كثير من المسيحيين اكتشاف أمجاد الروح في الحاضر
وعطايا دم المسيح الثمينة جداً التي تفوق العسل والخمر واللبن وبهجة الطبيعة
ومسرَّات هذا الملكوت الألفي الخرافي.
***
- 3 -
المصدر الثاني:
بقي علينا أن نفحص فكرة الحكم الألفي في الصيغة التي
يشير إليها سفر الرؤيا، والتي اعتمد عليها المسيحيون الأوائل في تدعيم الحكم
الألفي.
يقول يوحنا الرسول في الأصحاح العشرين:
+ «ورأيت عروشاً فجلسوا عليها، وأعطوا حُكماً. ورأيت نفوس الذين قُتِلوا
من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم
يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة.»
(رؤ4:20)
مع الفحص الدقيق نُلاحِظ في هذه الآيات أنها خلت
تماماً من أية إشارة لـ “مجيء المسيح الثاني” مع أن المجيء الثاني هو
الأساس الذي يضع عليه القائلون بالحكم الألفي كل عقيدتهم!
وكل ما ذُكِر بخصوص هذه الألف
سنة من جهة العلامات السمائية الملازمة لها هو أن ملاكاً نزل من السماء وقيَّد
الشيطان: «ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة على
يده. فقبض على التنِّين، الحيَّة القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، وقيَّده ألف
سنة.» (رؤ 1:20و2)
أما الأصحاح السابق لنزول الملاك وتقييده للشيطان ألف
سنة، فيتَّضح منه أنه لا يزال المسيح مستتراً في السماء: «ثم رأيتُ السماء مفتوحة،
وإذا فرسٌ أبيضُ والجالس عليه يُدْعَى أميناً وصادقاً...» (رؤ 11:19)، كما
يفيد الكلام أن المسيح لا يزال وهو في السماء يُمارِس حكمه للعالم وحربه ضد
الشيطان «وبالعدل يحكم ويُحارِب»، كما يفيد الكلام أن الأمم لا تزال تُمارِس
حياتها اليومية ولا تزال تضل عن الحق وتقبل التأديب: «ومن فمه يخرج سيفٌ ماضٍ لكي
يضرب به الأمم. وهو سيرعاهم بعصاً من حديد...» (رؤ 15:19)
كما يشير الأصحاح التاسع عشر أيضاً إلى حروب دامية
سيصنعها الملوك (الوثنيون) ضد المسيح (المسيحيين) بتحريض من الوحش - أي الشيطان - والنبي الكذَّاب - أي العبادات الكاذبة - والتي تنتهي بالقبض على الشيطان والنبي الكذَّاب
وطرحهما بعيداً عن العالم.
إذن، فعلى مدى الأصحاح التاسع عشر وحتى الآية السادسة
من الأصحاح العشرين، تختص كلها بحياة العالم الحاضر الآن، حيث المسيح يحكم
ويُحارِب ويؤدِّب ويرعى إنما بصورة غير منظورة.
فنحن الآن نعيش هذه الألف سنة وهي المعبَّر عنها في
موضع آخر بـ “ملكوت ابن محبته” أي ملكوت المسيح، الذي فيه الآن جميع القديسين
يملكون مع المسيح ونحن أيضاً نشاركهم في هذا الملكوت: «شاكرين الآب الذي أهَّلنا
لشركة ميراث القدِّيسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى
ملكوت ابن محبته.» (كو 12:1و13)
والمُلاحَظ أن القديسين لم يملك عليهم الموت، إذ بعد
موتهم قاموا مباشرة بقوة المسيح وهم يعيشون الآن معه وحتى انقضاء الزمان؛ وأما
بقية الأموات الذين لم يؤمنوا بالمسيح الذين سجدوا لمطالب الشيطان وشهواته فلم
يقوموا بعد موتهم، إذ هم تحت سلطان الموت وأرواحهم
مقيَّدة إلى أن يأتي زمان القيامة العامة للدينونة العتيدة أن تحلَّ عليهم.
وهذا ما يوضِّحه سفر الرؤيا جداً بقوله:
+ «... ورأيتُ نفوس الذي قُتِلُوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله،
والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا
ومَلَكوا مع المسيح ألف سنة. وأما بقية الأموات فلم تَعِشْ حتى تَتِمَّ
الألف السَّنة. هذه هي القيامة الأولى.» (رؤ 4:20و5)
أي أننا نحن الآن نعيش
القيامة الأولى، وهي القيامة من موت الخطية التي إذا لم نحصل عليها الآن
بالإيمان بالمسيح وبالتوبة وقبول وسائط النعمة التي للخلاص، فنحن نظل تحت موت
الخطيئة الأبدي، ولن يكون لنا شركة في ملكوت المسيح في الحاضر ولا مجد القيامة
الثانية التي ستكون بقوة مجيء المسيح في مجده: «مبارَكٌ ومقدَّسٌ مَنْ له نصيب في
القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله
والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة» (رؤ 6:20). أي أن كل مَنْ ينال الآن نعمة القيامة
من موت الخطيئة لا يعود لموت الجسد - المُعبَّر عنه بالموت الثاني - سلطان عليه؛ باعتبار أن موت الخطيئة هو الموت
الأول والآخر.
فكل الذين يقومون الآن من موت الخطيئة يصيرون
كهنة للمسيح أي خدَّام العهد الجديد، ويملكون مع المسيح سواء في حياتهم الآن بالجسد
أو حياتهم بعد موتهم بدون جسد، إلى أن يأتي الرب.
معنى الألف سنة:
يتمسَّك القائلون بالحكم الألفي أن نوعية هذا الحكم هي
زمنية،
معتمدين على تحديده في سفر الرؤيا بألف سنة، وهذا التحديد في نظرهم يعني أنه زمني
محضّ. ولكن الحقيقة أن الاعتماد على سفر الرؤيا في تفسير الحركات الإلهية تفسيراً
زمنياً مادياً يُخرِج الإنسان المسيحي عن جوهر السفر، لأنه سفر رؤيوي يقوم من
أساسه على التشبيه والرمز.
وواضح من لغة سفر الرؤيا أنها لغة رمزية، والأعداد
فيها تحمل معاني روحية ولا تفيد تحديدات زمانية. فالزمان في سفر الرؤيا يكاد يكون
ملغيًّا بجملته، فالسفر يبتدئ بتنبيه ذهننا: «... لأن الوقت قريب» (رؤ 3:1)، كما
ينتهي بتنبيه ذهننا: «... أنا آتي سريعاً» (رؤ 20:22). وها قد مضى الآن منذ رؤيا
يوحنا اللاهوتي حتى الآن ما يقرب من ألفي سنة. إذن، فكلمة “الوقت قريب”، وكلمة
“أنا آتي سريعاً” واضح أنها لا تعني الوقت الزمني والسرعة الزمنية؛ بل تعني
الوقت الروحي والسرعة الروحية التي يمكن ترجمتها بلغتنا بمعنى: حتمية الوقوع، وقهر
الزمن!!
فالألف سنة باللغة الروحية هي وقت روحي، والوقت الروحي
غالب دائماً للوقت الزمني، لذلك لا يمكن تحويله إلى زمن أرضي لأنه أعظم منه
بما لا يُقاس. فاليوم الروحي المُعبَّر عنه بيوم الرب قد يساوي ألف سنة
زمنية كما يقول الكتاب: «... أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم
واحد.» (2بط 8:3)
وهذا معناه أن ما يعمله الله بالروح لشعبه أو لأحد
أولاده في يوم مقبول يفوق ما يمكن أن يعمله الإنسان لنفسه في ألف سنة.
إذن، فالذي يقصده الوحي المقدس من عبارة «فعاشوا
وملكوا مع المسيح ألف سنة» (رؤ 4:20)، أنها تفيد الغِنَى والخصب الإلهي وتكدُّس
العطايا وانسكاب النِّعَم في حياتنا مع المسيح في ملكوته الحاضر الذي يشمل ما
نحياه معه الآن بالجسد - وهذا يمثِّل الجزء الصغير
جداً جداً، والمليء بالدموع والحزن والكآبة والتنهُّد - كما يشمل أيضاً ما نحياه معه بعد الموت إلى أن
يحين يوم القيامة العامة، وهذا الجزء يمثِّل الجزء الأغنى والأوفر سعادة الذي فيه
سيمسح دموعنا وتمتلئ أفواهنا فرحاً وتسبيحاً أبدياً.
ونحن لو رجعنا إلى الكتاب المقدس لفحص العلاقة التي
تربط الوقت الروحي بالوقت الزمني، أو على حسب لغة الكتاب “يوم الرب” و“يوم البشر”،
نجد أن يوم الرب يُعبَّر عنه - بالنسبة
للأسبوع - باليوم الثامن. ومعروف أن الأسبوع الزمني سبعة
أيام فقط، ومن هذا تنكشف الإشارة السريَّة أن يوم الرب خارج الأسبوع الزمني أي
خارج الدورة الزمانية المحدَّدة.
وقد بدأت الإشارة منذ القديم إلى اليوم الثامن بصفته
يوماً روحياً خارجاً عن مفهوم الحياة الجسدية بتعيين الختان في اليوم الثامن حتى
يصير الإنسان من رعية الله! وقد صار اليوم الثامن في العهد الجديد هو يوم الرب،
وهو يوم الإفخارستيا أي يوم الشركة الذي يرمز لـ “ملكوت المسيح” المُعبَّر عنه في
سفر الرؤيا بالألف سنة، الذي تعيشه الكنيسة كلها الآن، وتعيش عليه سواء الكنيسة
التي في السماء أي أرواح الأبرار الذين كملوا، أو نحن الذين لا زلنا نُمارِس هذا
اليوم السرِّي كفخر الأيام كلها وإكليلها.
إذن، فالحكم الألفي حسب اللغة السريَّة التي يتكلَّم
بها سفر الرؤيا «فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة» (رؤ 4:20)، هو في
الحقيقة
ما تعيشه الكنيسة الآن مع المسيح في السماء والأرض في تمتُّع ملكوته على مدى
يوم الرب المقبول، أو حسب لغة الناس كألف سنة أو يزيد!
يقول القديس أغسطينوس:
[ لن يكون هناك مجيء (ثاني) للمسيح قبل ظهوره الأخير للدينونة، لأن مجيئه
حاصل بالفعل الآن في الكنيسة وفي أعضائنا، أما القيامة الأولى (في سفر الرؤيا) فهي
مجازية تشير إلى التغيُّر الذي يحدث في حالة الناس عندما يموتون عن الخطيئة
ويقومون لحياة جديدة. فالحكم الألفي للمسيح على الأرض قد بدأ فعلاً بيسوع نفسه في
الكنيسة والقديسون يحكمون فيها...]()
***