إماتة الذات
+ الرهبنة هي طريق الموت الصادق والرسمي عن العالم، أي عن الذات. لذلك،
فالجماعة الرهبانية التي يعيش في وسطها الراهب، هي بالنسبة له الميدان الذي يباشر
فيه الموت عن الذات.
+ حينما يباشر الراهب الموتَ عن الذات بصدق وإخلاص لله، ويبتدئ يعيش كل
يوم مع المسيح، ينفتح له باب الحب الإلهي.
+ حينما يشرق الحب الإلهي في قلب الراهب، يصبح مجمع الرهبان بالنسبة له في
النهاية، عالم المحبة الجديد، الذي يمارس فيه سعادته. فانظر إلى نفسك أيها الراهب
الجديد والقديم، إذا أصبح المجمع في نظرك ميدانَ حبٍ، فقد بذلت الغاية من رهبانيتك
سراً، وبلغت الحياة الجديدة، فإن «عملنا الوحيد هو أن نحب الله، وأن نسعد أنفسنا
بهذا
الحب». أما إذا كنتَ لا تزال تدين وتتعثر بأوامر الرؤساء وأخطاء الكبار وخطايا
الصغار، فأنت لا تزال تحتاج أن تراجع رهبانيتك، أي تترهبن من جديد.
+ الموت الحقيقي عن العالم هو صَلبُ الذات، أي أنه موتٌ داخلي لا يعتمد
على الصوم والقوانين والنشاط في الخدمات المختلفة، بل يعتمد، قبل ذلك وفي أثناء
ذلك وبعد ذلك، على إنكار الذات والاستعداد لجحدها والتنازل عن المشيئة بسرعة
وبصورة تلقائية بدون تفكير، وهذا هو الذي كان يعمله الآباء في تعليم المبتدئين.
فنسمع في سيرة أنبا صموئيل «أن أباه علَّمه كيف يقول: نعم وحاضر وأخطيت».
وهذه الجملة غاية في البلاغة، وكان بعضهم يأمرهم بأوامر خطأ وغير معقولة، لكي
يعلموهم أن لا يعترضوا أو يلاججوا، مهما بدت الأمور والأوامر خطأ في نظرهم، لأن
موتَ الذات أهم من نجاح العمل.
+ لاحظ
أيها الراهب، السعيد برهبنتك وبمجمعك وبحياتك الجديدة، أن كل العوامل التي تصلح
لموت الذات وتساعد على جحدها وتنمية موت المشيئة وقطع الهوى، مثل الظلم والإهانة
والازدراء بك وإهمال مطالبك واحتقار أفكارك ورأيك، واحتياجك للضروريات، والآلام
والأمراض التي تتعرض لها أثناء حياتك، هذه كلها هي هي نفسها العوامل التي تلهب
المحبة الإلهية وتؤججها كالحطب للنار. لذلك فالراهب الذي نوى على الدخول في ميدان
إماتة الذات وقطع المشيئة، هو الراهب الذي ينفتح له ميدان الحب الإلهي ليجري فيه
جرياً، لأن من موت الذات تنفتح طاقات الحب،
لأن الرب لا يتراءى إلا في قلوب الذين أسلموا ذواتهم له تسليماً كلياً: «إن أراد
أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني.» (مت24:16)
+ انتبه أيها الراهب الطالب وجه المسيح، أن الذات هي إله الإنسان الطبيعي
الذي يضحي في سبيلها بأخيه وأهله وإلهه لإرضاء شهواتها ونزواتها. لذلك فبدخول
الإنسان الحياة الرهبانية، يبدأ النزاع والصراع الجبار الشرس بين الذات والمسيح.
هو صراع سري خطير وليس صراعاً علنياً أو منظوراً أو محسوساً، وغالباً لا يدركه
الإنسان إلا بعد وقوعه في جرائم خطيرة ضد المسيح، فيستيقظ ليعلم أن الذات في صراع
حقيقي ضد المسيح، وهي تعمل لإلغاء وجوده والتخلص منه شخصياً.
وقبل كل شيء يلزم أن تعرف أن عبادة المسيح بالحق هي هي موت الذات، فطاعة
المسيح لا تقوم إلا على أساس جحد مشيئة الذات، وإكرام المسيح وتمجيده لا
يقوم إلا على أساس رفضٍ قاطع كلِّي لأي كرامة أو مجد للذات، وأي مديح
وتسبيح حقيقي للمسيح لا يقوم إلا على أساس رفض كل مديح وكل سُبْح (مديح) باطل
للذات، وأي حب حقيقي للمسيح لا يقوم إلا على أساس بغضة الذات، أي بغضة المشيئة وكل
ملذاتها وراحاتها وعوايدها ومسراتها بالرباطات الترابية الكاذبة!!
وهكذا يتضح أن عبادة المسيح هي جحد الذات وإنكارها من البداية حتى
النهاية، موتاً كلياً وليس جزئياً، وموتاً حقيقياً وليس ظاهرياً، لأنه يوجد موت
جزئي غاش وموت صوري كاذب.
+ وعليك أن تلاحظ أيها الراهب، بكل اهتمام وكل وعي وانتباه بدقة عملية موت
ذاتك، لأن الذات شديدة الخداع والمراوغة، كثيرة الحيل المذهلة للعقل التي تستخدمها
لتجعل الموت وهمياً أو صورياً، وتضحك عليك وعلى المسيح، لتعيش وتحيا وتتمجد على
حساب المسيح وبدلاً منه. احترس جداً جداً جداً من عبادة الذات التي هي هي جحد
للمسيح وإنكاره، بالرغم من المواظبة على الكنيسة والصليب والإنجيل والصلوات
والمطانيات والدموع وقرع الصدر!!
لأنه إما تموت الذات وتقبل ذلك سراً وعلناً، ويصبح موتها ظاهراً
لكل إنسان، حيث لا يحس أحد بأن ذلك الراهب له مشيئة خاصة، فلا ملاججة ولا عناد ولا
مخالفة، ولا غش ولا خداع ولا مكر، ولا لف ولا دوران، ولا تذمر ولا غضب، ولا مطالبة
بكرامة مستحقة ولا إحساس بكرامة مفقودة، كل شيء حسن وكل شيء نافع وكل الظروف
والأشياء تعمل معاً للخير وللتهذيب. كل هذا يكون واضحاً ظاهراً بكل هدوء وبساطة،
وبدون تظاهر أو مظاهرة أو كلام. فالعمل وحده ينطق بهذه الحقيقة الإلهية، أن هذا
الراهب يسير بتؤدة وبصدق في طريق إماتة الذات.
أما إذا رفضتْ الذات أن تجوز الموت سراً، فإنها تبتدئ تسلك طريق الغش
والخداع، لكي تظهر أنها مائتة علناً وهي في الحقيقة ليست مائتة. وهنا يتفرع هذا
الطريق الرهباني الكاذب إلى ثلاثة طرق كل منها عبارة عن متاهة لا نهاية لها.
الطريق الكاذب الأول:
وهو ما يمكن أن
نسميه التزييف الأعظم:
وفيه تكون الذات غير المائتة على درجة كبيرة جداً من الغش والدهاء
والخداع، فتخدع صاحبها لكي يقدم كل فروض العبادة وواجباتها بنشاط ودقة عظيمة،
وتحثه لكي يقوم بجهادات فوق العادة، ونسك وأتعاب ظاهرة وسرية. ولكن لأنها غير
مائتة، فإنها يستحيل عليها أن توجه عباداتها للمسيح بدون مقابل بشري. لذلك تبدأ في
التحايل بكل الوسائل لكي يُعرف نشاطها وتُذاع جهاداتها طلباً للكرامة والمجد
والمديح وعطف الآخرين وتعظيمهم. فإذا نالت ذلك ارتاحت وزادت في جهادها ونسكها
وقوانينها. أما إذا لم تنل هذا الأجر وهذه المكافأة، يضعف جداً جهادها ويقل بذلها
ونشاطها وخدمتها إلى درجة كبيرة.
هذا الطريق الكاذب خطيرٌ جداً، لأن النفس يكون مطغياً عليها، إذ تعتقد
أنها تعبد الله فعلاً وهي في الحقيقة تعبد ذاتها، لذلك سمَّينا هذا الطريق
«بالتزييف الأعظم»، حيث يعيش الإنسان حياته كلها في حالة عبادة وهمية من تزييف
ذاتي لا يمكن أن يدركه إلا إذا انتبه إلى أنواع الخطايا والجرائم التي يعملها سراً
ضد المسيح، والتي يستحيل أن تحدث من إنسان مات فعلاً وصدقاً عن ذاته، ويعيش في
حياة الحب الإلهي كروح واحد مع المسيح.
الطريق الكاذب الثاني:
وهو ما يمكن أن
نسميه بالتزييف المفضوح:
وفيه لا تستطيع الذات أن تقنع الإنسان بأن يقوم بنشاط كبير وجهاد كثير، بل
تكتفي منه بالوجه الصوري فقط، أي تكتفي بالأعمال الظاهرية التي يراها الناس فقط.
أما العبادات والجهادات
الشخصية السرية فلا يقبل عليها إطلاقاً. وذلك لأن هذا النوع من الذات يكون مفضوحاً
للإنسان نفسه، أي أن الإنسان يعرف ذاته ويكشفها ويعلم خططها وهو موافق على خداعها
للناس. فالذات هنا تغش الناس فقط وتخدعهم، كأنها ذات تقية ميتة عن العالم، ولكنها
لا تغش صاحبها، لذلك سمَّينا التزييف هنا «بالتزييف المفضوح». أما في الطريق
السابق، فالذات كانت تغش صاحبها نفسه، لذلك سمَّيناها «بالتزييف الأعظم».
ولكن في الحالتين، نجد هدف الذات التي رفضت الموت الإرادي، هو أن تُكرَّم
وتُمجَّد وتُمْدَح بواسطة العبادة والصلاة، أي أنها عبادة صريحة للذات، وجحد لحق
المسيح وحده في المجد والكرامة.
الطريق الكاذب الثالث:
وهو ما يمكن أن
نسميه «الضلالة الصادقة»:
فيه لا تستطيع الذات أن تقنع الإنسان بأن يقوم بأي نشاط أو جهاد في
العبادة، لا كثير ولا قليل، لا ظاهري ولا خفي، لأن الذات تفضِّل أن تكون واضحة
وصريحة في إنكارها للعبادة والجهاد والصلاة، لذلك سميناها «بالضلالة الصادقة».
وهنا لا تطالب النفس بالكرامة والمجد والمديح عن طريق العبادة المخادعة المغشوشة،
وفي نفس الوقت تنكر الكرامة والمجد والمديح للآخرين أيضاً. وهكذا تمتد لتنكر
العبادة نفسها وواجباتها وجهاداتها. وهكذا تسلب الله كل حقوقه لدى الإنسان. فهنا
إنكار حب المسيح وجحد حقوق عبادته ومحبته هو إنكار وجحد مباشر. فالذات هنا مكشوفة
في ضلالتها لنفسها وللناس، وهي إنما تتقمص
شخصية الشيطان وعمله. «أقوالكم اشتدت
علىَّ قال الرب. وقلتم: ماذا قلنا عليك؟ قلتم: عبادة الله باطلة وما المنفعة من
أننا حفظنا شعائره وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود. والآن نحن مطوبون المستكبرين
وأيضاً فاعلو الشر يُبنَون؛ بل جربوا الله ونجوا. حينئذ كلَّم متقو الرب كل
واحد قريبه والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين في
اسمه. ويكونون لي قال رب الجنود في اليوم الذي أنا صانع خاصة وأشفق عليهم كما يشفق الإنسان على ابنه الذي يخدمه، فتعودون
وتميزون بين الصدِّيق والشرير، بين من يعبد الله ومن لا يعبده». (ملا 13:3-18 = عهد الرهبنة الجديد).
+ إذاً، رأيتم يا أحبائي أنه ليس اختيار في الدعوة الرهبانية بين أن نموت
أو لا نموت عن ذواتنا. فإما موت الذات وإما فشل مريع في الحياة الرهبانية كلها، بل
والخروج بدينونة الله وعداوته.
+ إما نموت عن الذات فنلتصق بالمسيح ونعيش معه بالروح كل يوم وكل ساعة وكل
لحظة، ويضطرم حبُه فينا حتى يوصلنا إلى السماء. وإما لا نموت عن الذات ونفضل العطف
عليها وتكريمها ومديحها وتعظيمها وتسليتها، فتتحول كل عبادتنا ونسكنا وصلواتنا إلى
حساب الذات، ليغيب المسيح الحقيقي عن النفس إلى الأبد، فيستيقظ الراهب في ساعة
ليجد نفسه قد تعب العمر كله باطلاً، لحساب مسيح زائف هو في الحقيقة ليس إلا ذاته
التي عشقها وعبدها.
+ إذاً، الرهبنة الصادقة الحقيقية هي ممارسة موت الذات منذ اللحظة الأولى،
ثم السهر بعد ذلك على قطع كل السبل عليها حتى لا تقوم ولا تحيا مرة أخرى إلى
الأبد.
طريق موت الذات:
لو كان موت الذات عملية تقع
في دائرة مسئولية إرادتنا وقدرتنا البشرية فقط لكان الأمر مستحيلاً، لأن الذات
أقوى سلطة من العقل والإرادة وهي تسخرها لحسابها. ولأن الذات هي هي الإنسان نفسه
في أقوى صورة لنشاط غرائزه الطبيعية!!
ولكن الموت عن الذات في الحياة مع المسيح هو عملية تعويضية نقبض فيها
أولاً ومقدماً قوة الموت عن الذات قبل أن نباشر فعل الإرادة أو التنفيذ. هذه القوة
هي قوة الصليب، أي موت الذات إرادياً. فهي قوة سرية عظمى باشرها المسيح بنفسه
أولاً وأعطاها لنا كنعمة مجانية، لكي نموت بها معه عن العالم ويموت العالم لنا.
وقوة المسيح هذه - أي نعمة الصليب - لا تُعطى وحدها عارية من عربون المجد، وهو تذوق
مُسْبَق للحياة الأبدية، الذي هو أسعد عطايا المسيح. لذلك أصبح الموت عن الذات
والعالم من أجل المسيح وحباً فيه يلازمه فعلان مساعدان على طول المدى: قوة الصليب
لتعين على الموت، ومذاقة الحياة الأبدية الذي هو عربون القيامة، ليعزي الإنسان على
قسوة فعل الموت عن الذات. ولذلك أصبح الموت عن الذات سهلاً ولذيذاً معاً بالرغم من
صعوبته ومرارته، وذلك بالنسبة للمجاهدين الذين يبدأون، بجرأة، جحد ذواتهم
ومشيئاتهم منذ اللحظة الأولى من أجل يسوع وحباً فيه. فهل يا ترى هذه الحقيقة
تشجعنا على الموت عن الذات بإقدام وبسالة؟؟
+ ولكن لا يُفهم من ذلك أن عملية الموت عن الذات عملية مركبة لها أسرارها
أو درجاتها، أبداً، فهي عملية بسيطة غاية البساطة
لا تزيد عن إصرار الإنسان على تسليم كل حياته بكل مفرداتها وكل ماضيها وحاضرها
ومستقبلها في يد المسيح تسليماً كلياً بلا رجعة، متنازلاً عن شهوته إلى الأبد كما
يتنازل الطفل عن أجمل ما في يديه لأبيه حباً فيه وعلماً منه أنه حتماً سيعطيه أفضل
مما سيتنازل عنه. نحن نعطي المسيح ذواتنا النجسة الترابية ومشيئاتنا الغبية
الحمقاء، ليعطينا هو ذاته وحياته، ويحملنا على أجنحة مشيئته القدوسة. فيا لسعادة
الذين ماتوا عن ذواتهم!!
فالذي مات عن ذاته لن يعود يخاف من أن يفقد شيئاً في الحياة بعد، لأنه فقد
كل شيء. فالذات هي بمثابة كل شيء للإنسان على الأرض. وحتى الموت لا يعود يخافه
لأنه يكون قد جازه تماماً عن ذاته بإرادته قبل أن يأتي ليجوزه رغماً عنه!!
تطبيق:
+ الذات التي لم
تمت تطلب وتلح دائماً أن ترتفع فوق الآخرين، وخصوصاً الرؤساء والمسؤولين، وتحب أن
تستظهر عليهم وتتميز عنهم، وهي تتحايل إلى مستوى الضعفاء لتكسب عطفهم وإعجاب
الناس، وبذلك تتميز وترتفع على الآخرين. كما أنها تستخدم المحبة والهدية والتودد
واللطف والممالأة والدفاع عن المظلومين، لكي تظهر على الآخرين وتتميز على الرؤساء
الظلمة المهملين الأردياء الأغبياء، لأنها هكذا تصورهم للآخرين حتى تبدو هي أفضل
منهم.
كما أنها تستخدم العبادة والنسك والصلاة الكثيرة والخدمة المتعبة لكي
تتمجد بها.
فانظر أيها الراهب وحاسب نفسك بشدة وافحص بدقة أسباب صومك الكثير الأكثر
من العادة، وصلواتك الكثيرة الأكثر من العادة، وسهرك الكثير الأكثر من العادة،
واتضاعك الكثير الأكثر من العادة، واختيارك الخدمات المتعبة أو الكثيرة أو الهامة،
لئلا يكون ذلك كله إرضاءً للذات لتتكرم وتُحترم وتتعظم من الناس، وليس في سبيل حب
المسيح وحده حباً صادقاً شريفاً أميناً.
+ الذات التي لم تمت، تتهرب
دائماً من الأعمال والمواقف التي ينكشف فيها ضعفها، وهي في سبيل ذلك تحترس جداً أن
لا تتقدم إلى هذه الأعمال، وتلجأ لتغطية ذاتها بأعذار كثيرة، منها عدم المعرفة أو
عدم لياقة الإخوة أو المرض، وقد تلجأ إلى طلب الحبس والسكون تخلصاً من المواقف حتى
لا تظهر عيوبها للآخرين. فاحترس أن تسير وراء نفسك وتتستر عليها، لئلا تفقد فرصة
تطهير ضعفاتك وأنت في بدء حياتك. لأن الذي تنكشف ضعفاته أولاً بأول ينال اتضاعاً
حقيقياً عوضاً عنها، ويتخلص من ادعاء الكبرياء إلى الأبد. فالأفضل أن تسعى وراء
فضيحة نفسك هنا حتى لا تُفضح بها هناك أمام الملائكة القديسين.
+ الذات التي لم تمت، لا تحتمل المحقرة ولا تطيق الإهانة أو الازدراء
والتصغير. فإذا شعرت في نفسك بالحقد والمرارة من معاملة أبيك أو أخيك أو رئيسك أو
مرؤوسك، فأنت لا تزال تعبد نفسك، وحب المسيح لم يشرق بعد في قلبك. لأن الذي ماتت
ذاته على صليب يسوع فهو ليس فقط يحتمل بفرح المحقرة والإهانة والازدراء والظلم...
إلخ، بل يجري وراءها بلا شبع.
+ الذات التي لم تمت لا تحتمل أن تأتيها أوامر أو توجيهات من إنسان أقل
منها علماً أو سناً أو مقاماً، لأنها ترى في ذلك إهداراً لحقوقها وكفاءتها
ومقامها. أما الذي ماتت ذاته، فإنه ينظر نفسه دائماً أصغر الجميع ولا أحد أصغر
منه، وأن لا حقوق له ولا كفاءة ولا مقام.
+ الذات التي لم تمت بالحق، فإنه يسهل عليها جداً أن تختار بنفسها المتكأ
الأخير باختيارها، ولكنها لا تحتمل ولا تطيق أن توضع في المتكأ الثاني بعد
استحقاقها الذي تظنه لنفسها!! وهكذا يتضح أن مثل هذه الذات تعيش على إنجيل مزيف،
لأن تنفيذها للوصية هو لحساب ذاتها وليس مجرد طاعة لأوامر المسيح.
واعلم دائماً، أن الذي يختار المتكأ الأخير يُختبر اختباره بالنار، «والذي
يتواضع لكي يكرمه الناس، يفضحه الله»، كما يقول مار إسحق.
أما إذا كانت الذات قد ماتت، فعلامتها أنها تحب المتكأ الأخير وتشتهيه، لا
تطلبه خوفاً من السُبْح الباطل، ولكن تنتظره انتظاراً حتى يأتيها على يدي الغير!!
+ الذات التي لم تمت، إذا لم تأخذ من المجمع كرامتها أو إذا نالها منهم
تحقير، تكره الصلاة معهم كرهاً ولا تطيق الوقوف في وسطهم أو التسبيح معهم، تتهرب
من ذلك وتتحاشاه ما أمكن. وهذا يكشف أن صلاتها وتسبيحها إنما هو مربوط بكرامتها هي
وليس كرامة الله وحب المسيح!! وهنا يظهر مقدار التزييف في العبادة لله!!
أما الذات التي ماتت، فالمجمع عندها مكان الحب وموضع الحياة والفرح
والتهليل من أجل حضور الرب. فالنفس التي أحبت الإخوة قد انتقلت من الموت إلى
الحياة لأن الرب دائماً في وسط الجماعة.
+ يوجد راهب يفقد القدرة على إماتة ذاته من أول الطريق، فينشأ من البداية
تائهاً عن الطريق الضيق. وهذا الراهب، بقدر ما يتسع علمه يضيق خلاصه، وبقدر ما
يدرك أسرار الفضيلة بالقراءة أو بالسمع بقدر ما يفقد القدرة على تكميلها، لأن ذاته
الحية تغشه حتى يكتفي بالمعرفة كأنها تكمل له العمل، لأنها تعلم أن ميدان العمل
الصادق كفيل لإماتتها وهي لا تريد أن تموت، تضحك عليه ذاته فتوهمه أن كل ما قرأه
عن فضائل القديسين هو فيه، ولا يحتاج إلى جهاد أو عمل لأنه كامل، لا يسمع عن فضيلة
إلا ويرى في الحال أنها فيه، ولا يُحكى له عن عمل فاضل إلا ويرى أن عنده ما هو
أفضل منه، لأن الذات تسرق كل ما يعرفه العقل لتدَّعيه لنفسها بالعمل، فيصبح
سكراناً بعشق ذاته، يمدحها للناس ويستمدح الناس لها. قامات الناس كلهم في عينيه
دون قامته... وقدرات كافة المقتدرين دون قدراته. إذا كان فيه عيب مكشوف نسبه للناس
وللظروف، وإذا كان عيبه خفياً حجزه عن أنظار الناس حتى وعن أبيه!! إذا أخطأ خطأ
ليس ظاهراً نسبه للآخرين بكل إصرار ويقين، وإذا كان خطأه ظاهراً فكل الأعذار تخدم براءته، خطاياه بسيطة
في عينيه وهفوات الآخرين عنده جرائم لا تُغتفر. لا يندم إلا لكي ينفض عنه
الانتقاد، ولا يعتذر إلا لكي يحتفظ بمكانته... وشيئاً فشيئاً يصبح الندم عنده
نقيصة والاعتذار إهانة...
وإذا كنتَ أيها الراهب لا تشاء حقاً أن تكون مثل هذا الراهب، فاسعَ منذ
أول لحظة في حياتك الرهبانية أن تجعل العمل والتجربة والممارسة هي المصدر الوحيد
للفضيلة وليس أعمال الآخرين أو كتاباتهم، وتعلَّم أن تكشف ذاتك بسهولة لمن يستطيع
أن يخضعها لقوة الصليب - أي الموت الإرادي - حتى تستطيع أن تدخل إلى الفضيلة من باب الصليب
وليس من باب العقل، وأن يكون عملك مطابقاً لأقوالك، وأن لا تتحدث إلا بما اختبرت
وليس بما قرأت وعرفت، أو على حد قول بولس الرسول: «لا لنفتخر بالأمور المعدة في
قانون غيرنا»، «ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئاً كأنه من أنفسنا»، «ولكني
أتحاشى لئلا يظن أحدٌ من جهتي فوق ما يراني أو يسمع مني»، «لأنه ليس من مدح نفسه
هو المُزكَّى بل من يمدحه الرب.» (2كو16:10؛ 5:3؛ 6:12؛ 18:10)
+ ويوجد راهب يفقد القدرة على الإماتة عن الذات في منتصف الطريق بعد ما
يكون قد ذاق واشترك في مواهب الله، ولكن تسود عليه شهوة المعرفة بقصد أن يكون
عليماً بأسرار الروح مسوقاً وراء المجد الدنيوي، تاركاً عنه حضن الله المريح
وبساطة الصيادين التي أوصلتهم إلى حكمة الروح المجانية. هذا الراهب يتوه عن خلاصه
بعد أن يكون قد أكمل الاستعداد له، فيظل نادماً على ما فات. يشعر كل يوم أنه يزداد
تيهاً وتوهاناً، ولكن لا يستطيع العودة لأن الذات تكون قد انتفخت بالمعرفة
الذاتية، فأصبح الباب الضيق كرباً حقاً ومكروهاً لها، وأعمال التوبة الأولى مُرةً
وشاقة لأنها تكون قد تعظمت بالمعرفة. وهكذا إذ
يتوهم صعوبة العودة، يزداد كل يوم انحرافاً وانحداراً، وعقدة
هذه الذات أنها تظل دائماً خجلة من ذاتها، تقبل المديح بسرعة ثم تتقيأه حينما
تتذكر ضعفها واتضاعها الأول، تحب الكرامة ولا تستريح إليها، وكراسي التعليم تكون
مشوقة لديها جداً ومغرية، ولكن بمجرد أن تجلس عليها تصبح عندها أشواكاً بسبب مرارة
الندم على أيام الاتضاع. تشعر أنها بتنفيذ مشيئتها دائماً إنما تهين مشيئة الله،
ولكن حلاوة ثمرة العصيان وبهجة شجرة التمرد تخفي عنها العاقبة، فتستمرئ المسير من
وراء الله حتى تستيقظ في النهاية وإذا هي خارج الطريق، خارج شجرة الحياة وشجرة
المعرفة معاً.
أما أنت أيها الراهب، فإذا أردت أن تؤمِّن لنفسك المسير في طريق إماتة
الذات حتى النهاية، فامسك بطريق التوبة الضيق حتى الموت ولا تغرك المعرفة التي
تؤدي إلى التيه والاعتداد بالذات، بل امسك بالبساطة التي توصل إلى عمق حكمة الروح.
واجعل الاعتراف بالخطية تجارتك الرابحة، ولا تخطو خطوة واحدة في طريق المعرفة
بدافع الطموح وراء المجد الدنيوي لئلا تنحدر إلى الهاوية وأنت شاب.
+ توجد ذات لم تمت، هذه عندما تعز عليها المعرفة الحلال، وهي تتحرق للشهرة
العالية الرخيصة، تتقلب على صاحبها وتلح عليه حتى تقنعه أن يصبح لها سارقاً
ولصاً.. يسرق ويعطيها - لا ذهباً ولا فضة - بل من أقوال الآباء وأعمالهم وأفكارهم، يأخذها
من كتبهم أو أفواههم وينسبها إلى ذاته ليتمجد بما ليس له، وهو يتوهم أنه إنما يمجد
الله «كما يزعم قوم أننا نقول لنفعل السيئات لكي تأتي الخيرات، الذين دينونتهم
عادلة، فإن كان صدق الله يزداد بكذبي لمجده، فلماذا أُدان بعد كخاطئ» (رو8:3و7).
هذه الذات تُشقي صاحبها وتحمِّله
دون أن يدري شروراً وآثاماً لا تقل جرماً عما يقترفه نزلاء السجون، ثم يبدو للناس
أنه خادم للفضيلة وعامل للبر.
أما أنت أيها الراهب، فانتبه واحترس واسهر على إماتة ذاتك، واحكم عليها
قبل أن تحكم هي عليك، وجرِّدها مما هو عليها حتى لا تسرق ما هو للآخرين، وإن كان
الضمير الحر يستثقل ذلك ويدينه، فكم يكون الله؟
+ توجد ذات متجبِّرة ماكرة مخادعة تملك على نفس صاحبها، فتستعبده كما
يستعبد المنوم المغناطيسي وسيطه. فهي تدفعه بالإيحاء المستمر لكي في نومه يرى رؤى
وأحلاماً، تكون كلها بتدبير الذات ووفق أهوائها وطموحها، وتأتي كلها مناسبة للظروف
والأحوال الجارية أشد مناسبة، ومحبوكة وكأنها حقيقة، فيستيقظ الإنسان ظاناً أنه قد
صار قديساً في يوم وليلة، ويبدأ يحكي للناس رؤاه وأحلامه الكبيرة المحبوكة، فينبهر
الناس ويمجدوا هذه الذات ويعظموها كقديسة وصاحبة كشف واستعلان ونبوة، وينخدع هو
أيضاً في نفسه ويعتقد أن ذلك صحيحٌ، والكل في الحقيقة هو من صنع الإيحاء الذاتي
بالتصور الفكري والخيال، أملته الذات الطموحة على النفس الضعيفة، وسخَّرت العقل
لتصوير ما تتمناه أو تخشاه بحَبك يفوق العقل أثناء النوم أو حتى في شبه يقظة!! حتى
تظهر الذات فائقة في طبيعتها فوق بقية الناس وذلك لإشباع طموحها. وهكذا عندما
يتعذر على الذات التسلط على صاحبها، لكي يكمل لها طموحها بالعمل والقول بالقدرات العملية والكفاءة الواقعية، تجبره على
استخدام التصور العقلي بالأحلام أو بالرؤى الشديدة الوضوح، لتكميل ما عجز عن
تكميله لها
في الواقع بالكفاءة والقدرة العملية، حتى تتمجد الذات على أي حال وبكل الوسائل!!
أما أنت أيها الراهب فانتبه وتيقظ منذ البدء إلى حركات الذات المخادعة
وطموحها وآمالها، لأنها إذا أفلتت من الإماتة في اليقظة والواقع، بدأت تعيش في
الرؤى والأحلام، وتُسَخِّر كل ملكات النفس والعقل لتعمل في النهاية لمديحها
وتعظيمها كذات فوق الطبيعة، ولا يقطعها من التعمق والتخصص في هذا المجال إلا رفض
جميع الرؤى والأحلام دفعة واحدة، مهما كانت، حتى تضمن لنفسك المسير في طريق الخلاص
الضيق، وتترك أنت الرؤى والأحلام لذوي القامات الروحية العالية الذين لا يُخشى على
خلاصهم.
+ الذات التي لم تمت، تكره الاعتراف وتتهرب منه لأنه يدينها ويفضحها، وهي
تخشى أن يظهر عيوبها. أما الذات التي ماتت أو تريد أن تموت، فتجد في الاعتراف
راحتها، فتسعى إليه بفرح، وتحطم كل الموانع في سبيل ذلك، لأنها تغتسل بواسطته
كثيراً حتى تَبْيَضَّ.
+ الذات التي لم تمت، إذا عزمت على عدم الموت فإنها تخفي عيوبها في
اعترافاتها، ثم تبدأ بعد ذلك تتهجم على الاعتراف أو على أب الاعتراف وتصفه بالجهل
أو الإهمال أو التحزب، لكي تضع هذه الأعذار فاصلاً نهائياً بينها وبين كشف عيوبها.
+ الذات التي لم تمت أو عزمت على عدم الموت، لا تنتفع بكلام أب الاعتراف
وبنصائحه، حتى ولو كلمها كل يوم وكل ساعة، بل يصير كلامه ثقيلاً على النفس غير
محتمل. أما الذات التي ماتت أو
عزمت على الموت فكلمة واحدة من الأب تجعلها تقفز في طريق الحياة الأبدية وتركض بلا
نهاية، والكلام والتوبيخ يكون شبه العسل.
+ هوذا العريس، يا إخوة، الذي نحبه ولو لم نكن نراه، يأتي في نصف الليل
ليفاجئنا، فاسهروا لاستقبال العريس، وطوبى للعبد الذي يجده مستيقظاً.
ها مطانية، يا
إخوة، صلوا عليَّ، واذكروني في صلواتكم ليكمل الله ضعفي بحبكم.
القمص متى المسكين
اختبار الله في
حياة الراهب
إذا تكلمنا عن اختبار الله في حياة الراهب، فنحن نتكلم عن «الاختبار
المسيحي» في الوضع المتكامل ليس أكثر ولا أقل.
بحسب اختباري الشخصي كراهب، أنا لم أستطع أن أفصل قط بين اختباري لله في
حياتي الشخصية الداخلية وبين اختباري لله في حياة الآخرين، كما أحسسته فيهم هم.
لأن كلاًّ من الاختبارين ينبع من الآخر ويؤثر فيه، وهما يكملان معاً اختباراً
واحداً هو اختبار الله في حياة الإنسان.
وفي اعتقادي أن خبرة الله في «الأنا» وفي «الآخر» بالنسبة للإنسان الروحي
هي ميراث البشرية منذ البدء، وعندما كان يفقده الشعب بأجمعه في عصور الظلام
والخطيئة، كان يعود ويتألق بشدة في حياة الأنبياء!!
وهكذا لم تفقد الإنسانية قط اختبار الله المتكامل. وفي اعتقادي أيضاً أن
تتابع عصور الظلام على شعب الله وتألق نور الخبرة الإلهية في حياة الأنبياء،
تُمثِّل الآن بصورة مبكرة ومتسعة حياة كل إنسان في المسيح بما تشمله من فترات
الفتور وفترات النور. والراهب يجمع في حياته حياة شعب جاهل وحياة نبي، بآن واحد.
فهو يمثل بصورة عامة
ودائمة عودة الإنسان إلى الله والالتصاق به.
وإن كنت أود دائماً أن أرى الرهبنة في نفسي مجرد حياة مسيحية لا يميزها عن
حياة أي مسيحي في العالم أيُّ امتياز، إلا أنني لم أستطع أن ألغي واقعاً مسيحياً
أشعر به وأمارسه في داخلي، لم أجد له مثيلاً في حياة المسيحيين الذين يعيشون في
العالم إلا نادراً، هذا الواقع المسيحي هو عمق واتساع اختباري لله في الآخرين.
لقد وجدت كثيرين من الذين يعيشون في العالم، لهم حياة مسيحية
داخلية أقوى مني وأعمق مني، ولكن لم أجد بينهم، إلا نادراً جداً، من له مثل «خبرتي
لله في الآخرين» بشدتها، بل أستطيع أن أقول، بعنفها وعمقها معاً. هذه الخبرة جُزْتُها
في حياتي الرهبانية كنتيجة مباشرة لحياة الخلوة والهدوء والصلاة والتأمل
العميق في العهدين القديم والجديد وحياة آباء الرهبنة الأوائل.
إذاً، أستطيع أن أقرر أن ازدياد «خبرة الله في الآخرين» هي ما يمكن أن
يميز الحياة المسيحية في الوضع الرهباني، وهذا عكس ما يظنه الناس جميعاً وعكس ما
يظنه الراهب نفسه، بل وعكس السبب المباشر التقليدي الذي كان ولا يزال يخرج من أجله
الإنسان ليترهب: لماذا تريد أن تترهب؟ «لأني أريد أن أخلِّص نفسي!!»
ولكن ليس هذا هو اختباري أنا الفريد من نوعه، بل هذا في الحقيقة هو الواقع
الاختباري لكل راهب، عرف ذلك أو لم يعرف، شاءه أو لم يشأه، إنما في وضع نسبي
وسرِّي للغاية، بمعنى أن اختباره لله في حياته الداخلية مهما بدا في نظره جديداً
وكبيراً، فهو في نسبته
يظل أقل مما يحصله فعلاً من اختبار الله في حياة الآخرين أو حياة الإنسان ككل،
مهما كان معتزلاً من أجل نفسه هو ومهما كان بُعدُه عن العالم خوفاً على خلاصه هو.
وبرهاني على ذلك أن كل الآباء الرهبان العظام الذين نجحت رهبانيتهم، أو
على الأصح نجحت مسيحيتهم، بلغت خبرتهم لله في الآخرين مبلغاً فائقاً جداً في نسبته
عما اختبروه لأنفسهم، وذلك باعترافاتهم. وأنا هنا لا أريد أن أبرهن على هذه
الحقيقة بتقديم اعترافاتهم من أقوالهم التي تركوها، فهي معروفة وواضحة وكثيرة
ويكاد لا يخلو كلام أي قديس من شهادة في نهاية حياته بعجزه، واعتراف بنقصه، مع
تأكيد متواتر بأن ما كتبه وما قاله عن خبرته لله بالنسبة للآخرين أو للإنسان عامة
هو فائق لما اختبره بنفسه لنفسه!!
وهنا أعزز اعترافاتهم باعترافي أنا شخصياً، فإن مقدار ما أعطاني الله من
خبرة بالنسبة لنفوس الآخرين يفوق على ما أعطاني لنفسي، لدرجة أني آكل دائماً من
الفُتات الساقط من المائدة التي يعدها الله للآخرين بواسطتي.
هنا نحن أمام حقيقة لا يمكن ولا ينبغي أن نتجاهلها، وهي أن خبرة الله في
حياة الراهب بالنسبة لنفسه تكون دائماً بكيل ومقدار، أما خبرة الله التي تنمو فيه
بالنسبة للآخرين فهي تكون بدون كيل وبدون مقدار. على أن مقدار نجاح الراهب في
حياته الداخلية الذي يظهر كخبرة شخصية مع الله، هو الذي ينشئ فيه الخبرة الأعلى
والأكثر بالنسبة للآخرين، وهي دائماً تفوق إمكانياته الشخصية!!
ومن هنا يتضح أن الحياة الرهبانية بخبرتها في العزلة الفردية والاختلاء مع
المسيح، عندما تكون صحيحة وسوية، تكون واقعاً رسولياً أو نبوياً بحسب طبيعة عمل
الروح القدس في النفس الخاضعة لله بتسليم كلي، حيث تؤهَّل النفس تلقائياً لقبول
خبرات مع الله على مستوى العطاء أكثر من الأخذ. حيث العطاء هنا لا نقصد به العمل
أو الكرازة أو التعليم أو الكتابة، ولكن نحدده في معنى الإمكانية وحسب.
وبهذا يتحتم علينا في عرضنا لموضوع خبرة الله أن نقسمه بالنسبة لحياة
الراهب إلى قسمين: الأول خبرة الله التي ينالها لنفسه، وخبرة الله التي ينالها
للآخرين. وسنكتفي في هذا المقال بعرض القسم الأول.
خبرة الله في حياة الراهب لنفسه:
نحن هنا لا نتكلم عن كل راهب،
كأن الرهبنة في زيها وطقسها تستطيع أن تمنح أي إنسان مواهب خاصة؛ هذا غير مقبول
وغير معقول أيضاً.
الراهب الذي سنتكلم دائماً بصدده هو الإنسان الذي خرج من العالم وظل
خارجاً عنه. بمعنى أنه هاجر هجرة أبدية لا رجعة فيها من موطنه الأرضي ليستوطن
السماء. هو خروج مماثل لخروج إبراهيم أبي الآباء من أور الكلدانيين. غير أنه لا
يستلهم في خروجه - كإبراهيم - صوتاً مسموعاً ولا رؤيا، ولكن يستلهم نداء
الخلود كاستجابة لدعوة يحسها في أعماق إنسانه الجديد الذي خلقه المسيح فيه
بالقيامة، ونفخ فيه من روحه القدوس، ومهد أمامه طريق الأبدية، وفتح أمامه باب
الملكوت.
وهنا نجد أنفسنا تلقائياً أمام أول اختبار مع الله يواجهه الراهب في
حياته، وهو اختبار الله في خروجه من العالم.
قد يبدو للآخرين أو للراهب نفسه أنه إنسان هارب من العالم بنوع الاعتفاء
من حمل المسئولية، أو التخلص من واجبات بدت ثقيلة أمامه، أو أثر صدمة أنهت على
ثقته بنفسه أو بالآخرين، أو من جرَّاء شعور جارف بالخطيئة والذنب جعله يستعذب
الألم والحرمان الرهباني كتعويض نفساني.
أو قد يبدو للراهب - وعلى أحسن الظنون - أنه خارج من العالم حباً في المسيح، أو رغبة في
الهدوء والصلاة، أو عشقاً لطريق القداسة والتبتل لله.
لكن سواء كان هذا أو ذاك، أي سواء في أسوأ الظنون أو أحسنها، نستطيع أن
نقول إن خروج الإنسان من العالم مهما كانت أسبابه المباشرة والواضحة جداً، فإنه
يوجد سببٌ جذري عام يختفي عميقاً جداً وراء كل خروج خرجه كل إنسان من العالم ليحيا
كراهب مع الله، وقد يحسه وقد لا يحسه الإنسان في خروجه من العالم. هذا السبب
الجذري العام هو «غريزة العودة إلى الله» التي تحملها الطبيعة البشرية في صميم
كيانها، والتي تبدو في صورتها المصغرة عند كل إنسان في العالم كحالة توبة إلى
الله، يحسها في أعماقه أحياناً، سواء استجاب لها أو لم يستجب!
«فغريزة العودة إلى الله» هي من صميم خلقة الإنسان، وهي في حقيقتها تعتبر
أهم وأقدس غريزة قبلها الإنسان في طبيعته المخلوقة،
لأنها تكاد تكون هي الغريزة التي ضمنت بقاء الإنسان على الأرض حتى اليوم، والتي
حفظت حياته من الفناء إزاء سخط الله.
وهكذا، فمهما كانت الأسباب الظاهرة والمباشرة التي تدفع الإنسان للخروج من
العالم للرهبنة، فإن «غريزة العودة إلى الله» تقف وراءها جميعاً. فلولا هذه
الغريزة الطبيعية الكائنة في صميم كياننا المخلوق، ما استطاع أي سبب من الأسباب
مهما كان عنفه ومهما كانت لياقته أن يسوق أقدامنا للخروج من العالم!!
لقد خرج إبراهيم من أور الكلدانيين «وهو لا يعلم إلى أين يذهب».
وبالتالي لم يهتم قط إلى أين يذهب لأنه كان خروجاً فائقاً عن مفهومه المكاني، إنه
خرج ليذهب مع الله إلى الله في المكان الذي يختاره الله. ولما استطاع إبراهيم أن
يستوطن الله، استطاع أن يهجر وطنه، وليس العكس. فإحساس الغربة عن الأرض (وهي فضيلة
في الحياة الرهبانية) لا يمكن أن تنشأ قبل إحساس الاستيطان في السماء، وإلا تكون
كاذبة وتنشئ ضياعاً.
فخروج إبراهيم من أور الكلدانيين كان نموذجاً لاستجابة مبكرة في الإنسانية
لغريزة العودة إلى الله.
والراهب إنسان استيقظت فيه هذه الغريزة، إما تحت عامل مساعد أو بدون عامل
ظاهر، وهو في خروجه من العالم يمثل نموذجاً مبكراً للإنسانية في أجمل أحاسيسها وهي
تفضل الاستيطان عند الله وتقرر عملياً - وفي ذاتها
- حقيقة إنجيلية، هي بطلان هيئة هذا العالم قبل أن
يبطل هذا العالم بالفعل.
القيمة الروحية لاختبار الراهب في خروجه من العالم:
إن كان لا يوجد في تاريخ
البشرية كلها اختبارٌ مع الله أسوأ من اختبار آدم وحواء وهما يُطردان من أمام وجه
الله، والملاك يستحثهما للخروج من جنة عدن؛ كذلك لا يوجد في تاريخ الإنسان اختبارٌ
مع الله أعذب وأرق من شاب أو شابة خارجيْن من العالم كلاَّ بمفرده، وبمنتهى حريته
ومسرته، عائداً إلى الله، يتحرق شوقاً للحياة مع الله، وليستوطن عنده إلى الأبد!
قد يبدو للناس وللإنسان نفسه الذي يطلب الرهبنة أنه خارج من العالم عن
عَوَزٍ وضيق وفراغ يطلب الملء ويطلب الراحة ويترضى وجه الله. ولكن هذا خداع بصرٍ
ينشأ بسبب المفارقة الصارخة بين ما سنتركه وما سنحصل عليه، لأننا بحسب الظاهر
سنترك العالم بهمومه وسنحصل على الحياة الأبدية بمسراتها. هكذا يبدو لنا الخروج من
العالم للدير.
ولكن الحقيقة خلاف الظاهر، فالطاقة الروحية التي نكون مشحونين بها أثناء
خروجنا، والتي تنقلنا عادة من العالم إلى الدير، تكون في حقيقتها ذات وزن روحي عال
جداً، وهي تساوي في قوتها وعملها واقناعها وفرحتها كل ما يؤهلنا للحياة الدائمة مع
الله، أي تساوي الحياة الرهبانية بأكملها، وفي أنجح صورها!! ولكنها لا تبقى في
مضمونها البدائي كطاقة خروج من العالم واستيطان مع الله، بل تتشكل معنا في الحياة
الرهبانية لتمدنا بكافة ما يلزمنا من القوة للتغلب على الذات، وعلى عقبات وعثرات
كثيرة، وعلى النمو في الحب والبذل.
لذلك نستطيع أن نقول إن اختبار الراهب لله في خروجه من العالم يُعتبر
الأساس الذي سوف يبني عليه كل اختباراته المستقبلة مع الله، خصوصاً إذا كان قد
وعاه في البداية، واستوعبه جيداً، وكرمه كعطية من الله، وظل محتفظاً به في قلبه وفكره
يردده أمام الله لكي يحقق كل يوم غريزة العودة إلى الله بكل القلب والفكر
والإرادة، «لأفي نذوري يوماً فيوماً» (مز8:61)، لأن هذا من شأنه أن يحتفظ لنا
بشحنة هذه الطاقة (طاقة الخروج من العالم للاستيطان عند الله) بكل دفقتها الأولى
على طول الطريق..
الخروج من العالم قامة من قامات ملء المسيح:
عندما خرج الرب من الأردن وهو
ممتلئ من الروح القدس، كنا نظن أنه يذهب ليكرز بالكلمة ويعلم ويشفي أوجاع
الإنسان، لأن هذا مناسب للملء! ولكن وجدناه يتعمق في براري الأردن منفرداً وحده،
صائماً معتزلاً العالم والناس والأقارب حتى التلاميذ جميعاً!؟
واضح إذاً، أنه لم يعتزل ليمتلئ، ولا هو اعتزل عن حاجة؛ ولكن خروجه
واعتزاله هنا يثبت لنا عن يقين أنه كان قامة أساسية من قامات ملء المسيح،
كالمعمودية ذاتها أو الصليب أو القيامة!! المسيح في الأربعين المقدسة أكمل للبشرية
قامة معينة من قامات الروح ألزم ما تكون للإنسان، وهي لم تكن قامة للملء بل قامة
بعد الملء وفي صميم الملء!!
المسيح في الأربعين المقدسة خرج من العالم من أجل العالم، اعتزل الناس من
أجل الناس، انفرد عن التلاميذ من أجل التلاميذ. المسيح أخرج البشرية معه - في ذاته - عن عالمها الذي أضلها، خرج بها من
موطنها الترابي ليستوطن بها مع الآب في البرية في عزلة عن شهوة الجسد وشهوة العيون
وتعظم المعيشة. وفي هذا الخروج وفي هذه العزلة المباركة سلم الإنسان النصرة على
الشيطان في هذه الثلاثة المواقع التي كانت موطن ضعفه وانكساره.
لقد أصبحت الأربعين المقدسة بذلك قامة من قامات الإنسان الجديد، ورثناها
من المسيح كما هي كاملة منتصرة، كقامة المعمودية أو كقامة الصليب أو القيامة، ولقد
تلقفتها الرهبنة فجعلتها لا أربعين يوماً بل الحياة كلها، «أربعين العمر»!
الرهبنة في المسيح، إذاً، هي قامة كاملة بحد ذاتها، لا عن عجز ولا عن
فراغ، لا عن يأس ولا عن طموح، بل هي ملء المسيح، مسيح البرية الممتلئ بالروح، مسيح
الأربعين يوماً بلياليها، مسيح الصوم والانفراد والعزلة.
وبذلك، فالرهبنة خروج مع المسيح من العالم لأجل العالم، واعتزال الناس مع
المسيح لأجل الناس.
فالراهب لا يخرج من العالم حتى وإن بدا له ذلك، بل هو في الحقيقة والواقع
خرج بالعالم إلى الله! والراهب في خروجه لا يعتزل الناس كما ظن، بل يعتزل نفسه،
ليستطيع أن يقدم الناس جميعاً إلى الله!
ولكن الراهب في خروجه من العالم، واعتزاله الناس، لا يمكن أن يحس أو يصدق
بأي حال من الأحوال أنه خارج بالعالم، أو أنه يقدم الناس إلى الله، لأنه يكون
محصوراً في ذاته، مطوياً على نفسه، يجتذبها
من العالم بكل مشقة، والعالم بشهوته ممسك بجلده كمن يريد أن يسلخه! وأصوات الأهل
والأصدقاء والناصحين والمحبين ترده، وتقلقه، وتعرقل خطواته، وتبدد من قلبه نداء
الخلود مرات ومرات كثيرة، حتى يكاد يجن جنونه.
ولكن أن يخرج الراهب من العالم وينجح في تكميل خروجه، معناه أنه يكون قد
ارتفع فوق العالم. وأن يرتفع الراهب فوق العالم، معناه أنه قد اكتسب كل القوة
اللازمة لأن يجذب العالم وراءه ويقدمه إلى الله!
وكذلك أن يعتزل الراهب أهله وأصدقاءه ومحبيه وأعزاءه جداً، معناه أنه يكون
قد غلب نفسه وأهلك ذاته!! وأن يغلب الراهب نفسه ويهلك ذاته وينجح في خروجه من
العالم، يكون قد نجح في أن يعتزل نفسه، وبذلك يتأهل أن يجمع الإنسانية كلها في
روحه ليقدمها لله.
كل هذا يتم في كيان الراهب أثناء تجربة خروجه من العالم، ولكنه لا يحس ذلك
ولا يدركه، إذ يبقى كطاقة روحية كبيرة لا يسترعي انتباهه منها إلا هدفها الذي يبدو
أمامه صغيراً منحصراً في مجرد التخلص من العالم وارتباطاته.
لذلك يُعتبر الراهب، وقد نجح في الخروج من العالم واعتزال الناس، صاحب
قامة روحية لها وزنها الإنساني والكنسي العالي جداً، بسبب فرادتها وندرة الذين
يؤهَّلون لها، باعتبارها قامة من قامات ملء المسيح
التي سلمها للبشرية لمواجهة سلطان العالم والشيطان وتحدياته: «ثقوا أنا قد غلبت
العالم»، «أنا لست من العالم». وعندما نقول «قامة
ملء»، فنحن نشدد على أنها قامة فيض وجذب وعطاء إنساني.
ولكن الراهب وقد اكتسب بخروجه من العالم هذه القامة الروحية التي للمسيح،
بكل طاقاتها الفائقة على العالم والناس، يظل في خطر من أن ينحصر عملها عنده في
مجرد التخلص الفردي من العالم وارتباطاته الشخصية مع الناس.
ولكن الراهب ليس مطالباً أن يملأ آخرين، أو يفيض أو يجذب أو يعدل من مسار
العالم والذين فيه، قبل أن يكتشف طاقاته وصلاحيتها، أي يكتشف ملأه هو، ويكتشف مدى
استقراره في خروجه الدائم من العالم ووقوفه فوقه، ويتثبت من نجاح عزلته الداخلية،
ويتحقق من انكاره لذاته، حيث هذه الطاقة تظل في نمو وتدفق.
وباختصار نركز على أن طاقة الخروج من العالم وهي تشمل قوتين، قوة الدوافع
التي تدعو للخروج وتؤمِّنه حتى كمال الخروج، والقوة الناتجة من الخروج التي تظل
تنمو على قدر إخلاص الراهب وأمانته في تعميق طاقة الخروج والاعتزال؛ هذه الطاقة في
مجملها وفي خبراتها الروحية، تظل في حالة كمون بالنسبة لخدمة الآخرين والعالم
المحيط، حيث تعمل في قلب الراهب وفي دائرة حياته الداخلية فقط، فيظهر الراهب وكأنه
إنسان أناني لا يهتم إلاَّ بخلاص نفسه.
ولكن فجأة، وعندما يبلغ الراهب حالة الوعي الكامل لملء القامة التي وُهبت
له بنعمة المسيح في خروجه من العالم واعتزاله الناس، يبتدئ يفيض من ملء هذه القامة الروحية غير المحدودة في المسيح، ويبتدئ يعي
ويحس ويتحقق شيئاً فشيئاً مدى المسئوليات الجسام المرتبطة
ارتباطاً جوهرياً وتلقائياً بهذه القامة بالنسبة للعالم والآخرين عامة.
ولكن وحتى بعد أن يبلغ الراهب النضج الكامل في الخروج والعزلة، ويحوز ملء
قامة المسيح في هذا الاختبار الفريد والفائق على العالم وعلى المجتمع الإنساني، لا
يكون مطالباً بأكثر من بقائه في حالة استعداد للعطاء والبذل دون أن يتحرك من
موقعه، فالدعوة للعمل لا تستلزم الانتقال إلى العالم أو النزول إلى الناس.
فالراهب، لو هو وعي ملأه في المسيح تماماً، يستطيع أن يجذب العالم إليه ويرفع
الناس إلى مستواه دون أن يتحرك خطوة واحدة من مكان عزلته!!..